وفاء بنت سالم
عدوي العزيز
لقد حدث ما كنت أتجاهله، وأرفض الرضوخ له .
في البدء دعني أقول عبارة لكل من يطالب الآخرين بالصبر والابتسام والتظاهر بالقوة وعدم إظهار الضعف ، أقول لهم: كفى.
دعوا النفس تعبر عن كل ما ينتابها من مخاوف ،دعوها تصرخ ، تبكي ، تأن، تجري ، تركض رعبا ، تكسر ما حولها ، تعتزل، تسافر ، تبحر ، تكتب ، ترسم ، تلون ، تشتم ، تنام ، تضحك بهسترية ، لا تقحموها في رؤياكم ولا آرائكم ، لا تجبروها على مبادئكم ونظرياتكم ، لا ترسموا لها خط مسارها ، اعتقوها أرجوكم .
لقد أيقنت خلال الأسابيع الماضية كيف أن المرء يبقى هشًا كجناح بعوضة وكيف أنه يحتاج فعلًا لمساحة تنجيه من زخم الضغوطات ، الارتباطات ، الواجبات والالتزامات المجتمعية والأسرية، ولما تشيخ بعض النساء سريعًا وتذبل الحياة فيهن حسب المجتمع والبيئة التي ينتمين لها .
الساعة الآن الحادية عشر بعد منتصف الليل وهي الساعة التي أحسست فيها بعد وقت طويل بالقدرة على الكتابة لك ، والرد كذلك، لن أعتذر لأني لم أرد على أي اتصال منك او رسالة .
يمكنني الآن أن أتحدث على لسان أي اًنثى تعيش حياتها كلها بصفتها الزوجة “المرافقة “لمريض طال مرضه حتى غدى يمثله دون مقدمات في أي وقت يشاء فيه بالظهور ،وإني اًقسم لك أن هذا المرافق هو من يحتاج لعلاج نفسي طوال فترة مرض الآخر ، أن الأمر أشبه برجل آلي يمارس أعماله دون توقف فينهار فجأة .
أجل هكذا هو ، يبدأ المريض بالتنقل من عيادة لأخرى ، ومن مشفى لأخر ، تجرى لها الفحوصات ، يوصف له العلاج ،وقد يكتب له ان يجري عملية ضرورية ،يخضع بعدها المريض لعناية كبرى خشية انتكاس حالته الصحية ،وقد يحدث أن يكون المريض شخصًا عنيدا وأناني بعض الشيء .
ولكن ثمة شخص لا يسأل عن حاله ،ولا بأي صبر تقف؟
هذا الشخص هو الشخص نفسه الذي عايش كل هذه المراحل والذي يقوم بمهام الطبيب ،الممرض والمراقب في غيابهم.
انه الشخص الذي يستلقي على فراشه بجسد يقظ ،وينام بآذان مفتوحة ،توقظه حركة ،تنهيدة ،ونة و سعال حاد.
آو صوت المنبهة مذكرًا بضرورة إعطاء المريض دوائه .
هذا الشخص هو نفسه الذي يتلقى اللوم ،العتاب والتوجيهات من قبل كل من يراه ،راجيًا منه أن يكون أكثر انتباها لمريضة.
هذا الشخص هو نفس الشخص الذي سيكون مسؤولاً عن بقية أفراد الأسرة وعن أي إخفاق سيتعرض له المريض أو انتكاسة .
هذا الشخص الذي يتلقى العتاب إذا فكر بالخروج لدقائق بعيدًا عن الوضع الراهن الذي يحيط به .لم يفكر أحد به ، بحالته النفسية ، الجسدية ، الروحية والفكرية .
وإني على إيمان كبير جدًا أنه بحاجةٍ ماسة لطبيب أو مستشارٍ نفسي لأنه إن لم يفعل ذلك سينهار جسده بعد صبر ،صمت وعناء وحينها لا شيء يجدي نفعًا ولسوف يتضاعف حجم شيء .
ولا دخل لقوة الإيمان وحجمه بكل ما يحدث ، فلست أدري كيف يمكن ربط كل شيء في الحياة بقوة إيمان المرء وإخلاصه .
ولا أدري ايضًا لماذا نطالب الآخرين بالصمت والصبر .
أليس كبت الشيء مهما كان نوعه وحجمه يولد انفجارًا ملحوظًا ؟.
فلما الصمت إذًا ؟!.
لقد تفتت كل شيء ، كان الأمر أشبه بجمع قطع البازل في لوحة مقاسها 6×3.قطع بملامح ومعالم معقدة ، وما أن بدأت بجمع أطرافها واتضاح ملامحها تتحرك بمرفق يدك بقوة لا مبالية فتتناثر قطع البازل مسببة فوضى عارمة . ويحدث ان تكون هذه القطع المتناثرة هي أنت، بعدما لم يستطع بعضك ان يسند بعضك .
ينهار جسدك معلنًا أنك لست بتلك القوة ، وأنك انت ايضًا بحاجة ماسة لعناية تامة . ورغم ذلك ، رغم كل ضغطة ألم تحاول جاهدًا أن تجمع قطع البازل بأسرع ما يمكن لتعيد ترتيبها خشية أن يلاحظ الآخرين أن اللوحة ليست كما يجب أن تكون .
أجل يا عدوي العزيز، يحدث أن نكون هذه اللوحة ولك ان تتخيل كم مسمار يتم دقه في جسد بعض اللوحات دون أن تنبس بكلمة واحدة .
ثمة لوحات يتم تغليفها جيدًا وحفظها في مكان آمن حتى لا يصيبها الضرر ،وثمة لوحة أخرى تعلق للملئ وتصاب بكل أنواع الضرر ولا ينتبه لذلك أحد ،وما أن تصبح لا شيء يتم استبدالها بلوحة أخرى .ولوحة تختفِ ملامحها ولكن يتم جمعها بشريط لاصق لأنه لا يمكن الآن استبدالها أو الاستغناء عنها ،ولوحة وجدت للزينة فقط تعلق على الجدار من أجل أن ينظر إليها الآخرين بدهشة او استنكار .
يا عدوي كنتُ ولا أزال أُقاتل بالدعاء؛ لأني أعلم أن الغوث منه وإني وإن طال بقائي في هذه اللوحة لابد أن أنتصر .حتى لو كانت قطع اللوحة ناقصة لابد من إنتصار لأجل الروح التي تسكن هذا الجسد.
ولا زلت أمسح على قلب أبنائي ووالدهم ،أقرأ السور المنجيات ،وروحي لا زالت خائفة عليّ.