محمد المبارك خالد التيرابي*
يفتقر البعض -بكل أسف- إلى مقومات حسن ودفء التعامل مع الآخرين فيما يعرف بالتلطُّف والتفضُّل والتعطُّف، إذ يؤطر كل ذلك في إطار التعامل الراقي (الإتيكيت) فهم بذلك لا يصلحون لإرساء علاقات عامة وثيقة وحميمة مع الآخرين وبالتالي لا يفلحون في تأسيس ركائز عملية تؤتي أكلها كل حين بغية التمكين للنجاح في الحياة بوجه عام بعد إخفاقاتهم المتتالية في مجالات القيادة والإدارة والتجارة وغير ذلك، لافتقادهم روح الصبر والمداراة بفعل الردود السريعة الغاضبة غير المتعقِّلة إذ ليس لديهم مهارات حسن الإصغاء، والنقد من غير تجريح، والتفاعل الرزين، فبعض القوم يتصفون بالحدَّة والشدَّة لأنهم يعتبرون الاعتذار والتنازل أو على الأقل الانتظار قليلاً حتى استكمال تفهم موضوعٍ ما … يعتبرونه ضعفاً وانهزاماً وفقاً لما نشأوا عليه منذ نعومة أظافرهم من عادات وتقاليد جامدة بمفاهيم خاطئة منها رفض ما يروْنه هواناً واستكانة مهما يكن، بعيداً عن ثقافة التسامح والاعتذار، على النقيض تماماً مما جُبلت عليه بعض الشعوب الوقورة بحيث لا تسمع صوتاً مرتفعاً في الشارع قط ناهيك عن الضرب والسب والشتم!!!
لقد عشت ردحاً من الزمان في سلطنة عمان وكثيراً ما هالني وراعني لطف التعامل بين الناس هنالك، أذكر أنه عندما يحدث -مثلاً- تصادم بين سيارتين يأتي المتضرر ويمد يده أولاً مصافحاً لمن تسبب في الحادث في ابتسامة عريضة متودداً متحبباً وكأنه الجاني!!! فما يُنال بالتفاهم الراشد والقول الليِّن عادة يعجز عن تحقيقه الانفعال العصبي لا سيما في وسط لا يعرف مصطلحات العداء والاستعداء من السخط والتبرُّم والتحامل والتدابر والتلاعن والتنابز بالألقاب!!!
لقد عشت فترة ليست بالقصيرة في سلطنة عمان ولم أرَ يوماً أحداً متوتراً قد فقد صوابه، فالكل ديدنه التسامح والتغاضي عن زلات الآخرين العارضة في توددٍ وترفقٍ ينعكسان واضحيْن في كل شئ حول الناس الوادعين بتجردٍ والتزام، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول في أهل عمان: “لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ”.
ففي الدول الغربية مثلاً لا يختارون الرجل حاد الطباع سريع الانفعال لأن يتفاوض إنابةً عنهم سعياً إلى التقريب بين فئتين، أو أن يكون ممثلاً لهم في أمر ذي شأن فهو لا يصيخ السمع بقلبه قبل أذنيه، وعادة ما يستجيب إلى الاستفزاز المقصود وغير المقصود فلا يؤدي مهمته على الوجه المرجو بل ربما يؤجج الخلاف برعونته وقلة حنكته
يقول الشاعر:
من لي بإنسان إذا أغضبتُه
وجهلتُ كان الحِلم ردَّ جوابِهْ
وإذا صبوتُ الى المُدام شربتُ
من أخلاقه وسكرتُ من آدابِهْ
وتراه يصغى للحديث بطرفهِ
وبقلبه ولعله أدرى بِهْ
ومن الشعوب التي لا تُستثار بسهولة الشعب الماليزي فهو بطيء الغضب إن لم أقل عديم الغضب، حيث عشت بينه زهاء عقدين من الزمان ولم أسمع صوتاً مُزمجراً من أحد أو حتى مجرد عتاب عابر لأنهم لم يألفوا ذلك مطلقاً حتى يشبُّوا عليه!!!
ومن الوقائع الطريفة أن البروفسور السوداني مالك بدري عالم النفس المعروف عالمياً والذي عاش في ماليزيا أستاذاً جامعيًّا لفترة طويلة يحكي أنه تراهن مع زميل له على ألا يمكن أن يجدا ماليزيًّا يتشاجر مع آخر فأصرَّ صاحبه على أنه ممكن إيجاد ذلك فذكر له إذا وجدا من يتشاجر سيعطيه ألف دولار! ومرت السنون والأيام ولم يجدا أحداً يقوم بذلك وذات مرة وهما يصليان في مسجد إذ سمعا صوتاً عالياً بعد انقضاء الصلاة فقال صاحبه: “الحمد لله لقد كسبت الرهان” فقال له البروفسور البدري: “تمهل يا هذا حتى تتضح الرؤية” وبعد قليل تبين لهما أن الرجل الذي رفع صوته ناقماً، ليس سويًّا فهو (مجنون)!!!
فالشعوب النزَّاعة لقلة الدماثة وقلة الأدب لم تحقق شيئاً يُذكر، بتعنتها وغلظتها وعُنجهيتها الجوفاء إذ لا بد من خُلق عظيم يُمهد لها الطريق السالمة السالكة إلى العلياء والسؤدد، وصدق الشاعر إذ يقول:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
*خبير استشاري في التدريب الإعلامي والتطويري الذاتي والمؤسسي بخبرات دولية.
taheel22@gmail.com