بقلم: منى بنت سالم المعولية
في كنف سعيد بن سلطان وبين أحضان بيت المتوني وتعنّت عالية المقام عزة بنت سيف – قرينة والدها الشرعيّة- مضت سالمة أو إميلي تُطارد أعوامَ طفولتِها على أعمدةِ الدرابزين العملاقة، تخشى أن تفلت خطوتها هنا أو تنزلق قدماها هناك ملوحة بيديها لأخوتها.. كلما صافحت عينيها بيض النعام تنقضُّ عليه راكضة به إلى كبير الطباخين في القصر؛ ليكافئها بالحلوى مقابل خدمتها الجميلة.
سالمة مزيجٌ من الأقدار، وقصةٌ من ألفِ ليلةٍ، وعالمٌ من فنتازيا، وخيالُ أميرةٍ عربيةٍ، قرنفلةٌ زنجبارية، حسناءٌ أفريقيةٌ، لها في الانتقال مقال..
كان بيت الواتورو هو حضن طفولتها الثاني عاشت مع أمّها يتقاسمان حُلمَ ماجدٍ ومزاجيّة خديجة، تبادلتْ زيارة أخوتها لأبيها في بيت الساحل، والحياة جزرٌ و مدٌّ..
تعلمتْ سالمة ركوب الخيلِ، والقنصِ، واستمتعتْ بمصارعةِ الديوكِ، جاهلة أن هناك صراعات أكبر و جموحًا أقوى و تمردًا سيفضي بها إلى انشطار، فحين فرّت من ثنايا “كيزمباني” بل من مراتع صباها وأملاك أبيها ملقية بقدرها، معلقة أمالها، مغلفة حُلمها على ظهر السفينة الإنجليزية؛ لتنقلها إلى عدن، لتنسلخ من دين قماطها، وتتأبط دين “رودولف رويته” ويُتم تعميدها؛ لتعيش تيهًا آخر، وتنتقي أو يَفرِض عليها العشقُ أن تتدبرَ الإناجيل بعد أن كانت تتلو سور القرآن، وكان صوت الأذان يجْلِد أذنيها كلما تعالت الأصوات من مأذنه، فقد تتبعت سالمة همس “هاينرش” وغدت تنظر بعينيه و تنطق بلسانه، وما يحرّك أجزاءها هو قلبها المسكون به لا عقلها الذي تركته عند أول نظرةِ حبٍ وشغف، وها هي إميلي رويتي تخلع سالمة وتودعها متوجهة شطر منفاها الاختياري حين توجّه بها دقل السفينة عابرًا البحر الأحمر، تذيبها حرارة حزيران والبعد عن الوطن معا.
فتعيش متنقلة مكلومة بين غربة و فقد وصفعة الغياب، تلك الصفعة التي كانت قد قصمت ظهر الصبر فيها بموت زوجها؛ ليتقاذفها العوز والفقر والحاجة، مطاردة الزاد، هاربة من غلاء المعيشة، ممتطية قطار الذلِّ من ضواحي “هامبورج” اتباعا بـ”دريسدن” و”رودلشتات”، فلا نهر الراين قد احتوى إميلي ولا بحيرة الستر كانت قد روت عطشها لتقول مقولتها الواردة في مذكراتها الشهيرة: “تركت وطني وأنا عربيةً مسلمةً؛ وهأنا ذا نصفُ مسيحيةٍ وأكثرُ بقليلٍ من نصفِ ألمانية”.
عاشت سالمة مُشَتّتةٌ، تحنُّ إلى الوطنِ، محتفظةٌ بجَرّةٍ بها حُفنةٌ من رملِ زنجبار، التي لم ترها بعد هربها إلا مرتين -قُوبلت عودتها بالرفض من أهلها-؛ لتعود وترقد بعد أعوام التيه والعذاب محاذاة زوجها، وتُدفن غريبة الوجه واليد واللسان، مختصرةً حضورها برفاةٍ في جرّةٍ تحت سنديانة عتيقة بأولدسدورف، مكتوب على شاهد قبرِها جملةً مقتبسةً عن تيودور فونتانة: “مخلص من أعماق قلبه من يحب وطنه مثلك”.