حمد الرشيدي
كلما أردت الاتصال بالوالدة -حفظها الله-، يظهر لي في البحث اسم الوالد-رحمه الله- فتواتيني فكرة الاتصال به، هل يا ترى سيحدثني؟ هل سيرن هاتفه؟، هل هناك اتصال في عالم الأرواح؟، هل سيبثني أشواقه ويتحرق للقائنا كما نتحرق للقائه ونبثه لواعج أشواقنا؟، ما حاله يا ترى؟، هل هي رقدة حتى يوم يبعثون؟، أم أنهم يحسون ويشعرون ويتسامرون هناك كما نتسامر هنا؟؛ ليقصروا أوقاتهم كما نقصرها هنا ويهدرونها كما نهدرها هنا أم أن الوقت قد توقف معهم فلا يرضى بالحركة، أتحسس هاتفي مرة أخرى، أحاول استجماع قواي لأتصل ولكن تخور العزيمة ويستولي الخوف ويتملكني الياس، لماذا لا تحاول الاتصال، ماذا سيحدث لو اتصلت، هل تخشى من سماع صوت والدك أو من الرد:”يتعذر الحصول على المشترك المطلوب”، لماذا الخوف إذن، هيا تحرك، اتصل، ليس هناك ما تخسره بعد أن ناهزت الأربعين ومرت عليك صروف الدهر وحلبت أشطره، لكني أنكص على عقبي، إنه الجزع من محادثة الأموات التي لا تطيب في اليقظة بل تطيب في المنام، حيث للرؤى مذاق آخر وصيت حسن، ثم من يصدقك إن حدثت الناس بحديث تنكره عقولهم، هل هي إلا الشماتة واتهام بالجنون، لكني سأتصل مهما كلف الأمر.
استجمعت قواي ذات صباح وشحذت همتي وهيأت نفسي وضغطت على رقم والدي، لقد رن الهاتف فكاد يغمى علي، تجمدت الدماء في عروقي، شحب لوني، تسارعت دقات قلبي، تيبست أطرافي، جحظت عيناي، تكلم والدي أخيرا، لكن بالصوت الذي أنكر و اللهجة التي لا أعرف، هل يا ترى تتغير الاصوات واللغات في القبور لدواعي الاختلاط بين أجناس مختلفة والسكنى بين المختلفين لهجة وعمرا ولغة وجنسا؟ فالرجال هناك بجنب الأطفال والنساء والعربي بقرب الأعجمي والحضري بحذاء البدوي، إنه التأثر والتأثير والمعرفة والتعارف والاعتراف إذن والذي لا يتحقق إلا هناك اضطرارا وليس اختيارا، ثم لما حضر وعيي وانتبهت من سكرتي ورجعت إلي فكرتي أدركت أن رقم والدي قد أخذه شخص آخر، وأن وجوده بقائمة الاتصال ليس إلا ذكرى وعبرة وعظة، رحمه الله واسكنه فسيح جناته.