الكاتب: بدر بن سالم العبري
بعد الحديث عن الجانب التّأريخيّ والّذي تحدثنا عنه في المبحث السّابق [من العصور القديمة وحتى العصر الحديث] لابدّ من التّطرق عن الجانب الفلسفيّ والاجتماعيّ من خلال تحليل ما أشرنا إليه تأريخيّا، ليعطي مقدمة واسعة للنّظرة الفقهيّة، وسبب الخلاف الكبير فيها.
ومن البديهيّ أنّ من فلسفة الوجود الجمال، سواء كان الجمال منظورا أو مسموعا أو ملموسا أو متذوقا، فهو جزء من صيرورة الإنسان في الكون، فهو يتمتع بالمناظر الّتي خلقها الله تعالى في الوجود، يقول سبحانه: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[1].
لذا نجد الإنسان منذ القدم تصيبه الدّهشة في جمال الكون، فطالما تمتع بجمال السّماء والنّجوم، وشدّ رحاله في السّهول والسّواحل والجبال والغابات، حتى أصبحت السّياحة اليوم فنّا جماليّا يتسابق فيه العالم، ليتعرف الإنسان ويكتشف أكثر جمال الطّبيعة.
كذلك تَمتَعَ الإنسان بجمال الصّوت، فهو يتمتع بصوت العصافير، وصوت حنجرة الإنسان الطّبيعية، واعتبر بعض المفسرين قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [2]، أي الصّوت الحسن في قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}[3].
وأمّا الملموس والمتذوق فهو يلمس جماليات ما حوله يتمتع بهم كملاعبته لأطفاله، وتذوقه لكلّ ما هو طيب من الطّعام والشّراب.
وعلم الجمال ينتمي إلى علوم الفلسفة، وهو أحدث فرع فيها، ويسمى الاستاطيقا Aesthetics، حيث يرجع هذا العلم إلى نهاية القرن الثّامن الميلادي عند الفلاسفة الأغريق[4].
وترى أميرة حلمي مطر [معاصرة] أنّ الجمال والفن نشأ مع وجود الإنسان، إلا أنّه كعلم فلسفيّ نشأ مع نشأة فلاسفة علماء اليونان القدماء[5].
وفي الحقيقة ربط نشأة الفلسفة ومن ثمّ فلسفة الجمال بعلماء الإغريق فيه نظر؛ لأنّ الفلسفة وجدت قبل اليونان، ومنها الفلسفة المصرية القبطيّة أو ما سميت لاحقا بالفرعونيّة، والفلسفة الكلدانيّة، ولكن لعلماء الإغريق فضل التّقعيد والتّجميع والتّكوين والتّطوير، وعلماء المسلمين وفلاسفتهم فضل حفظ الفلسفة الإغريقيّة وترجمتها وتطويرها.
وكما أسلفنا الجمال في الإنسان وعشقه له فطري غريزي لذلك حاول البحث عنه وفهمه ومن ثمّ تقليده، أمّا تقليده فله صور عديدة من ذلك جمال اللّباس، {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[6]، واللّباس تقليد للباس الطّبيعة، وحاول الإنسان تطويره في أشكاله ورسوماته، وتعدد اللّباس في ذاته فنّ إنسانيّ بديع.
كذلك قلّد جمال الطّبيعة في صنع بيته والتّفنن فيه، ممّا اعطى للهندسة المعماريّة ذوقا جماليّا وفنيّا.
وحاول أيضا تقليد أصوات الطّبيعة في صنع الآلات والألحان، وابتكار المقامات والقواعد الموسيقيّة، بجانب الإبداع الشّعريّ وقواعده، والفنون الشّعبيّة.
وفي المقابل كان التّصوير والنّقش والرّسومات الفنيّة، واليوم الإبداع الرّسميّ عن طريق الفوتوشوب والرّسومات الالكترونيّة.
وجاءت الأديان السّماوية لإضافة بعد جمالي روحي ليتكامل الجمالان الروحيّ والبدنيّ، ولقد حاول يوسف القرضاويّ [معاصر] في كتابه الإسلام والفنّ أن يجمع بين الجمالين: جمال العقل بالمعرفة، وجمال البدن بالرّياضة، ضاربا العديد من النّماذج، منطلقا من جماليّة الكون وجمال القرآن.
واختلف الفلاسفة والمؤرخون في العلاقة بين الفنّ والجمال من حيث الذّاتيّة والأسبقيّة، إلا أنّهم اتفقوا أنّ العلاقة بينهما علاقة مطابقة.
فبعضهم يرى أنّ الجمال هو جانب فلسفيّ تنظيريّ ظهر لاحقا، والفنّ هو طبيعة إنسانيّة سابقة له، تجسد الثّاني في أشكال فنيّة تولّد منها فلسفة الجمال.
وبعضهم يرى أنّ الجمال طبيعة ذاتيّة وجدت مع الإنسان، ثمّ تشكل إلى جوانب فنيّة متنوعة.
وعلى العموم في نظري أنّ الجمال هو الطبيعة البشريّة الّتي وجدت في أصل الكون، ثمّ عشقها الإنسان فطرة بشريّة فيه من خلال علاقته مع نفسه والكون، فأسقط هذا الجمال في أشكال فنيّة متعددة، ومع تنوع هذه الأشكال وجدت فلسفة الجمال.
فالجمال كأصل بسيط سابق للفنّ، والفنّ نتيجة طبيعية له، ووسيلة في إسقاطه وتقريبه، أمّا الجمال كفلسفة وعلم فهو متأخر عن الفنّ.
والعلاقة بين الغناء والمعازف بقيمة الجمال، أنّ الأول صورة من صور تقليد الطّبيعة ومحاكاتها في جمال الصّوت، والمقامات الموسيقيّة أوازن له كالعروض في الشّعر الفصيح، والمنطق في الخطاب والجدال، والنّحو في القراءة والكتابة، والصّرف في الحديث والخطبة، لهذا لا يمكن تحليل الجانب التّأريخيّ بعيدا عن هذه الفلسفة الجماليّة، وفي الحلقة القادمة سنتحدث عن الفلسفة الجماليّة من منظور الإسلام.
يتبع الحلقة الثّالثة عشر ………………
ملحوظة: العديد ممّا جاء في هذا المقال نشر سابقا في مجلّة الثّقافيّة، عدد 25، 1ذو القعدة 1437هـ/ أغسطس 2016م.
الهامش:
[1] النحل/ 5- 6.
[2] فاطر/ 1.
[3] ينظر مثلا: الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسّيوطي، ط دار الفكر لبنان/ بيروت، الطّبعة الثّالثة، ج 7، ص 4، وقد ذكره عن ابن عباس، وأبي هريرة، وينظر أيضا: الجامع لأحكام القرآن للقرطبيّ، دار الفكر لبنان/ بيروت، ج 14، ص 320، وذكره عن ابن جريج.
[4] موقع فيدو على الشبكة العالمية، الرابط:
http://www.feedo.net/QualityOfLife/QualityOfLifeBasics/Aesthetics.htm، الزيارة: 28 شعبان 1437هـ، 6 مايو 2016م، وقت الزيارة: الساعة الخامسة مساء (بتصرف).
[5] مطر: أميرة حلميّ؛ فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها، دار قباء للنشر والتوزيع، مصر/ القاهرة، ط 1998م، ص11.
[6] الأعراف/ 31.