حمد بن سعيد المجرفي
رغم قلة الحروف غير أن عظيم المعاني تقف إجلالاً ، وتنحنى إحتراماً حين ننطق باسم الوطن .
فالوطن هو القلب النابض ، والحضن الدافئ ، وهو صمّام الأمان الذي أنعم الله به على الإنسان ، ليجد المكان الآمن للعيش فيه ، ويؤتمن به بالحفاظ عليه .
فمن فقد الوطن فقد الكرامة ، وكم من دول مزقتها الحروب ، وتفرقت بها السبل ، وأهينت كرامتها ، واحتلت أراضيها من جراء الحماقة ، وعدم المحافظة عليها ، والمتاجرة بها ، ناهيك عن النهب والتشريد والتدمير ، وما يلحق بها من مجاعةٍ وهتكٍ للأعراض وللكرامات وغيرها الكثير والكثير ..
فمن يعي بقيمة الوطن يحافظ عليه وعلى وحدته .
كما أن الوطن هو أمانةٌ تُحمل على عاتق أبناءه المخلصين والاوفياء .
فلنقف على سرد بسيط لإحدى القصص :
أحد العمال الوافدين يعمل بمهنة طباخ فى إحدى الشركات ويتقاضي مرتبا شهريا لا يتجاوز بضعة الريالات ، غير أنه يحمد الله حين يصبح ويمسي على نعمة يشعر بها ويقضي بها حاجته ، ويقيت بها ظليلته ، فيرسم البسمة فى وجه من ضاقت به السبل ، حين يراه شاحب الوجه وهو قادم يتناول وجبته ..
مرت السنوات وهو على هذا الحال ، يمتهن هذه الصنعة ، غير أنه ذات مرة ؛ أخذنا الفضول ، وكثرت التساؤلات عن حال هذا الشخص ، رغم علمنا أنه من الجاليات الوافدة التي تعمل فى البلد من أجل الحصول على المال من عرق الجبين، فقلنا له ما سر سعادتك ؟ إبتسم، وقال : سر سعادتي أكتملت وأنا أعيش تحت سماء وطنٍ يسمى عُمان ، منذ أن قدمت اليه وأنا فى عمر العشرين عاما ، جمعتني بكم حب هذا الوطن ، وحب المواطن ، والترابط الذي يربطكم ببعضكم البعض ، فمن كل بلد فى عُمان تتجمعوا تحت سقفٍ واحد ، تتناولون وجباتكم على طاولة واحدة ، والبعض الاخر منكم يجلس على صحن واحد ، أي حبٍّ كهذا الحب الذي يجمعكم !..
فإنني أشتاق لمثل هذا التآلف ، والذي لم أجده ولا أسمع عنه طيلة حياتي ، وانا اليوم عمري يناهز الخمسين عاما ..
شدنا الحديث أكثر وتساءلنا عن وطنه ! قال وبحرقة : فأي وطن يضاهي عُمان أجده اليوم!
فانا عشت طيلة هذه الفترة فى هذا البلد ، وعندما يأتي وقت ذهابي الى بلدي لقضاء الإجازة بعد مرور عامين ، أحن للرجوع الى عُمان ، فجميع الصفات النبيلة حين أتخيلها وأنا على مقعد الطائرة للذهاب ، ينتابني للحظة بكاءٌ بحزن وحرقة ، وحين يعلن ساعة الإقلاع وكأنها آخر لحظة من حياتي ، خوفا أن تحين لحظة الوداع ولن أعود مرة أخرى …
فتعجبت منه وقلت له ثم ماذا ؟
قال أنتظر الإيام لتمضي لكي أعود الى وطنكم عُمان ، حيث أنني أقضي طوال فترة إجازتي أعلم أبنائي وجميع من حولي عن عُمان ، وأخلاق أهل عُمان وأطباعهم ، وأراهم حين حديثي شاردي الذهن ، في عجب مما أحكي ، وكأنه الحلم بالنسبة لهم ..
ثم قلت له ممازحا :
لربما الراتب الذي تتقاضاه جعلك مبالغا بهذا الكم من الحُب ؟
فهز راْسه ولألأ قائلا :
راتبي لو عودت به أبنائي على ما يريدون ، لن يفئ غرضهم ، ولا يغطي حاجتهم ، ولكن أرمز لهم بالقناعة ، وهناك مدرسة أبدعت واستطاعت أن تروضهم على القناعة ، وأن الرضا بالقليل هو طاعة ، فقلت : ومن هذه المدرسة التي استطاعت بأن تولد بداخلهم هذا الشعور !! فتبسم وقال : والدتهم .
فهى المدرسة والمعلم لهم ، فطيلة السنوات وأنا خارج الوطن ، وأعمل من أجل توفير المأكل والملبس لهم ، ووالدتهم هى الأم والأب فى آنٍ واحد ، وهى المدرسة التي تستطيع أن تخلق منهم رجالا قادرين على الإعتماد على النفس ، وتغرس بداخلهم قيمة الاشياء وتعلمهم على الحفاظ عليها .
ثم عاد قائلا : والدمع يملأ عينيه
لماذا تريدني لا أحب عُمان ، وأنا أرى فيه سعادتي من خلال معاملتكم ، ولطف حديثكم ، فالبعض يأتيني ويبتسم يطلب وجبته وهو يقول : لو سمحت أريد من هذا النوع رغم أنه من واجبي أن أقدمها له ، ولكن يأخذها بأدبه وأسلوبه ورقيه ..
لماذا تريدني لا أحب مدرسة تصنع الابتسامة ، وتعامل الناس معاملة الإنسانية ..
فعمان وطن تجلت به نبل الصفات ، ويمسك بيدي والدمع يملأ عينه .
قائلا : فى بلدان ما ، هناك الجميع من تجمعني بهم صلة القرابة والمعرفة ، يتذمرون من سوء المعاملة خارج أوطانهم ، وأنهم يعاملون كالبهائم ، بينما فى عُمان الجميع يعامل معاملة الدين والاخلاق .
فقلت له : قال صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ فأعادها ثلاثاً أو مرتين. قالوا: نعم يا رسول الله. قال: “أحسنكم خلقاً” .،
فسكت قليلا وقال :
أنني أحب عُمان وأعشق ترابها وأحب سلطانها ..
فقلت له : وعُمان تحبك وترابها يرحب بك ..
فالخلاصة : بأن من يداري عن النعمة ويراعي الشعور بها ، يقف قليلا ولينظر حجم ذلك الترابط الجميل ، فى وطن تجلى بأنبل الصفات ، وحسن الخلق ، فى وطن خلق وبداخله فطرة الترابط والتلاحم ، أسس بناءه على قواعد متينة ، ألا وهى اسمى قواعد الحب ، بمدرسة أستاذها قابوس المعظم ، وأبناؤها من حملوا الراية ، لترفرف فى سماء المجد ، راية السلام .
اللهم احفظ عُمان واحفظ قائد عُمان وأبناء عُمان الاوفياء ..