د. سليمان بن سالم الحسيني**
كانت زيارتي الأولى للعراق في شهر سبتمبر 2015، تاريخية بالنسبة لي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فالعراق المتواجد بقوة في التاريخ العربي وحاضر الأمة ووعيها، ارتسم في ذاكرتي منذ أمد ليس بقريب، مركزا لحضارات ما قبل الإسلام، والفتوحات الإسلامية، وهجرة القبائل العمانية التي كادت أن تجعل من البصرة في بعض الحقب التاريخية مدينة عمانية، وعلي والحسين، والحجاج والرشيد، والمتنبي وابن المقفع، وأرض السواد بنخيلها الباسقات، ودجلة والفرات، وعاصفة الصحراء، وأحزان الأمة العربية وهمومها. وعندما وقفت لأول مرة على ضفة نهر دجلة عصر يوم السبت 19 سبتمبر 2015 في ضاحية الكاظمية، ومن ورائه الأعظمية، في العاصمة العراقية بغداد، تحقق بالنسبة لي حلم لم أكد أظنه ممكنا في عصر أوشكنا أن نفقد فيه الأمل في أن تطأ أقدامنا العراق الذي غيبه عنا وعن واقعه العربي آلة الغزو الغربية التي حولت العراق من مهد الحضارات وقصائد الحب والغزل و(آلف ليلة وليلة) إلى أرض الصراعات الطائفية والمفخخات والدماء والخوف والحزن. وفي حين لا تزال الذكريات الجميلة لتلك الزيارة الأولى راسخة في الذاكرة، جاءت الزيارة الثانية في شهر سبتمبر 2017، لتحفر ذكريات أخرى عن هذا البلد العظيم والشعب الذي ترتسم على محياه ملامح الشهامة العربية الأصيلة والصلابة والتطلع إلى غد مشرق بالخير والسعادة.
العراق هبة دجلة والفرات، مثلما أن مصر هبة النيل، وعُمان هبة الأفلاج. فبمياه دجلة والفرات الغداقة الفواحة تنمو وتترعرع نخيل العراق لتعطي ما يتجاوز الستمائة صنف من أفضل أنواع الرطب والتمر. وما بين هذين النهرين قامت حضارات السومرين والبابليين والأكاديين والأشوريين. ومن هنا مر الإسكندر المقدوني، وعبرت جيوش الأخمينيين، والسلوقيين، والبارثيين، والساسانيين في العصر الحديدي والعصور الكلاسيكية القديمة والعصر الوسيط. ولا تزال أثار بابل التاريخية، بمحافظة بابل ومدينة (الحلة)، شاهدة على عظم حضارة بلاد ما بين النهريين، بقصورها الشامخة وتحصيناتها القوية، وبوابة (عشتار)، والمعابد، و(شارع المواكب) المزين بالفسيفساء والرموز وصور الآلهة والوحوش، والمسلات، وبرج بابل، والحدائق المعلقة، والكتابات المسمارية، والأساطير، وصراع الخير والشر، وعبادة الشمس والقمر والنجوم، ورسالة التوحيد التي جاء بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. قال مكي الحميري (أبو زينب)، الخبير والمرشد السياحي في موقع مدينة بابل التاريخية، في أثناء زيارتي لهذا الموقع يوم الأحد 17 سبتمبر 2017: أن حمورابي ونبوخذ نصر (1800-550 قبل الميلاد) كانوا يصدرون الفائض من المنتجات المحلية إلى الخارج ويقايضونها بمنتجات غير موجودة في العراق مثل النحاس الذي استوردوه من (ماجان)- عُمان، والتوابل المستوردة من الهند، وهي سياسة استمر عليها كوروش والإسكندر المقدوني ومن جاء بعدهم من الملوك.
ما بين النجف وكربلاء وبغداد يفوح عبق حب آل بيت النبوة والولاء والإخلاص لهم من قبل مريديهم وأتباعهم. ففي النجف مرقد الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وفي الكوفة بيته ومسجده، وفي كربلاء، حيث وقعت (معركة الطف) الشهيرة في العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61هجري، مرقد العباس بن علي وأخيه الحسين بن علي، سبط رسول الله، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وفي الكاظمية ببغداد مرقد الإمام الكاظم، عليه السلام. ولا يكاد يخلوا مكان، هنا وهناك، في هذه البقعة من الأرض، إلا ويشهد لآل البيت مرورا عابرا، أو إقامة دائمة، أو تضحية في خدمة الدين والأمة، أو نَفْسا أزهقت في سبيل الله، أو علم يسطر خدمة للإنسانية، أو مآثر ومحامد يأبى الدهر إلا أن ينشرها غراء مشرقة.
ويصب في هذا الاتجاه مؤتمر (العميد) الذي تنظمه (العتبة العباسية المقدسة) في كربلاء، وتمت دعوتي إليه في دورتيه الماضيتين للمشاركة بأوراق بحثية كتب لها القبول. فالعتبات المقدسة تقوم بدور ديني وثقافي واجتماعي وأكاديمي، وتسعى إلى مد جسور التواصل الحضاري والعلمي بين العراق والدول العربية والعالم أجمع، وتتبنى منهج الاعتدال والوسطية.
العراق الذي كان مهدا للحضارات وطريق عبور للقوى والإمبراطوريات يتكون من خليط ثقافي معقد للغاية يكاد لا يوجد له مثيل في الدول العربية والإسلامية الأخرى. فمن حيث الأعراق، يوجد بالعراق خليط من العرب والكرد والفرس والتركمان والإزيديين وغيرهم، ومن حيث الديانات يوجد الى جانب الإسلام، المسيحية والصابئة وديانات أخرى، كما يتحدث أهل العراق العديد من اللغات مع احتفاظ اللغة العربية بموقعها الرسمي. وهذه التركيبة الثقافية المعقدة شكلت للعراق تحديا وتميزا في آن واحد. فيتمثل التحدي فيما يعاني منه العراق الآن من طائفية برزت في صورة صراعات بغيضة أججتها تدخلات لقوى إقليمية ودولية في شأن هذا البلد. وأما الميزة فتتمثل في قدرة الشعب العراقي بمختلف أطيافه ومكوناته على العيش المشترك. وهذه ميزة يدركها العراقيون أنفسهم، كما يدركها الزائر لبلدهم. فالطائفية، كما يقول العراقيون الذين تحدثنا إليهم، عاهة عابرة فرضتها ظروف سياسية واجتماعية طارئة، وليست ميزة من صميم ثقافة هذا البلد، ولا من شيم أهله الذين تعودوا على الاندماج والتآلف والتراحم فيما بينهم، بغض النظر عن الانتماء الطائفي والمذهبي والديني والعرقي. ويسعى الشعب العراقي الآن بخطى حثيثة لاستعادة لحمته الوطنية والاجتماعية واضعا نصب اهتمامه حب الوطن ومصلحته العليا.
بغداد الغائرة في قلب العروبة والإسلام، والنابضة بالفخر والتراث والعلم، يستأثر بها نهر دجلة من أولها إلى آخرها، وليس للفرات منها نصيب، وعلى ضفاف نهر دجلة قامت معالمها وجسورها وأسواقها ومدارسها التاريخية والفكرية، ومساجلات وأطروحات المفكرين والعلماء والشعراء. فمن تحت جسر (الشهداء) يتدفق دجلة بمائه الذي يحاكي زرقة السماء. ومن على هذا الجسر يمكن رؤية مجلس الوزراء، وجسر (الجمهورية)، وشارع (النهر)، والمدرسة (المستنصرية) التي أسسها (المستنصر بالله العباسي)، ومتحف (البغدادي) وأسواق (الشورجة) و(السراي) بـ(درابينها) الضيقة، وساعة (القشلة)- المقر القديم التاريخي للحكومات العراقية، ومدينة الطب، ووزارة الصحة، والصالحية. ومن على هذا الجسر يعبر شيوخ وقورون، وسيدات تتغشاها العفة والحيا، وشباب طموحهم ملء السماء، وعيون كتلك التي جلبت (لعلي بن الجهم) الهوى بين الرصافة والجسر.
وهنا، في العاصمة بغداد، يقع شارع الرشيد، واحد من أقدم الشوارع الحديثة في العالم العربي، وشارع المتنبي الشهير الذي لا يزال يعرض الكتب بمختلف مواضيعها الفكرية والعلمية والثقافية للمثقفين والطلبة والعلماء. كما لا تزال مقاهي بغداد ملتقى للبغداديين والسواح والعراقيين الزائرين لعاصمتهم الغراء. ولا يزال الحاج (محمد الخشالي) صاحب مقهى (الشاهبندر) الذي تأسس في 1920، تنبض روحه بالحب والسماحة، وترتسم على محياه ابتسامة ملئها الألم والأمل وهو يكتب لي إهداء على كتابه (الفاجعة الكبرى) الذي يروي فيه حجم الجرح الغائر الذي تركه انفجار مفخخة أمام المقهى في 2007 وأودى بحياة خمسة من أبنائه وأحفاده. كما لا يزال (عصائر حاجي زبالة) الذي تأسس عام 1900م، متخصص حصري في عصير الزبيب، (يشرب من شرباته كل الملوك والرؤساء) والسواح بدءا من الملك فيصل، وياسر عرفات، وحسني مبارك، وصدام حسين، وشربتُ منه أنا شخصيا في هذه الزيارة لأروي حتى الثمالة عطشي البغدادي يوم السبت الموافق 16 سبتمبر 2017.
*نشر هذا المقال في ملحق ” إشراقة” بجريدة الوطن، وتم إعادة نشره بالإتفاق مع الكاتب
**أكاديمي عماني، وباحث بمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية