وفاء بنت سالم
عزيزتي أ
أعتذر لأني لم أرد على رسالتك الأخيرة التي وصلتني منذ عدة أيام، أشعر بأن لا شيء يقال أو يكتب حين تجدين نفسك بعيدة كل البعد عن العالمين، تفصلك آلاف الأميال وتضيق عليك مئات السبل..
لا شيء يذكر هنا أو يحدث وهذا سبب في جعل الحياة تبدو بائسة مللة، هذا التكرار الذي يفقد نبضه، لونه وشغفه بات أشبه بالعطسة التي تخرج منك بقرصة في عضلات الصدر..
ربما الأمومة هي الشيء الوحيد الذي أمارسه بإصرار في هذا العالم الضيق..
لقد فقدت القدرة على الإحساس بطعم القهوة، كما أني أصاب بالغثيان بمجرد أن أملأ معدتي بالطعام، ورغم كل هذا أشعر بجسدي ينتفخ كمنطاد..
أمارس الرياضة يوميا ولا أرحم جسدي منها، لكني أجدني عاجزة أحيانا في تفسير ما يحدث لي، فما أن أضع جسدي على السرير كل مساء وأمده كما يمد الصياد سمكته أشعر بقبضة ألم حادة في معدتي كقبضة المصارع في جسد خصمه..
كما أني قد تخلصت من العديد من العطور بسبب رائحتها التي أصبحت تسبب لي الغثيان وتجعلني اختنق أو أتقيئ..
صباح أمس كنت اقوم بتبخير ملابس أبنائي و والدهم بعد أن جفت وكالعادة أضع في الفحم البخور الذي أعتدت وضعه لكني تفاجأت من ردة فعلي ما أن فاحت رائحته، هاجمتني نوبة سعال حادة سبقها اختناق لعدة ثوان، وبعدها دوار انتهى إلى تقيئي العصارة الصفراء المرة من معدتي..
بالنسبة للقراءة فأنا أقرأ ما استطعت وأكتب حتى تضيق النفس..وعلى ذكر الكتابة أود أن اسحب جملتي السابقة في أن الكتابة تشفينا..
ال كتابة تبقينا نتنفس ونستمر في الحياة بوجعٍ مضاعف.. فلا شيء يحد مما نعيشه من خواء ووجع، لن أقل الموت وحده الخلاص لأني لا أعلم ما الذي يخبئه لنا الموت من ظلمات ونور ومما لا شك لن يكون خلاصا لنا..
منذ أن عدت من بيت والدي في الزيارة الأخيرة فترة العيد لم أتحدث مع أحد شفهيا ولم اقابل انسيا سوى صغاري ووالدهم الذي لا زال مريضا حتى الآن، ولا أخفيك انا بحاجة ماسة لكتف صديق أضع عليه راسي، بحاجة كذلك للحديث مع شخص عن كل شيء عداي، بحاجة لخلع وجهي الحالي وغسل رائحة الأدوية العالقة في جسدي بعطرٍ ذكوري صاخب..
بحاجة لأن أرقص على نبيذ الموسيقى مع رجل يعرف جيدا كيف يتقبل ضعف معرفتي بفنون الرقص، وبحاجة أكثر لسفر اتحدث فيه لأشخاص غرباء، اراقب فيه المسافرين في المطارات، أمشي بخطوات بطيئة في أروقة المطارات كسائحة تبحث عن المعرفة..
بحاجة لأن اشغل وقتي بعمل يجعلني اشفى قليلا من هذا الخواء..
لأن أربي الأمل فيني وانتزع بعض السواد الذي تسلل إلى يومياتي و روحي..
روحي التي استفاقت على وجع مضاعف وتيهٍ حارق..
واني لأشفق على روح تائه، محترقة، مشوهة و وحيدة..
أبحث عني في آيات الله، في الأحاديث والسور المنجيات، أبحث عني في الأدعية المأثورة والأولياء الصالحين، في أدعية الأمهات وخوف الجدات، في صمت الآباء وانتفاضة الأرواح فلا أجدني..
ما الذي يحدث يا ترى؟!
أرتدي وجه الأم مع صغاري فأكتشف بأنهم أكثر نضجا من سنواتهم ويصيبني الخوف من ذلك، خوف أن يصبح أحدهم نسخة مني..
أرتدي وجه الزوجة فأجدني نسخة من أم صابرة وممرضة شاحبة..
أرتدي وجه الابنة فأجدني صامتة أيضا كأم خائفة كعجوز تخطاها الموت بسنوات..
أرتدي وجه الأخت فأختنق به، بكل ما يحمل من أسئلة ونصائح وذاكرة ممتلئة بالارشادات والتوجيهات..
كل الوجوه التي ارتديها تهتك بعضي، تغرس كل يوم شعرة بيضاء في راسي..
اتوسد يميني فتسقط الأسئلة بجانبي، تمد جسدها الهرم الممتلئ بالندوب البشعة، تمسك بيدي اليمني المشابهة لها في البشاعة، تضحك في وجهي لاختنق من رائحتها التي تشبه رائحة الصوديوم..
أشيح بوجهي عنها اغمض عيني أتجاهل كل الأصوات والأسئلة، كل التقلصات التي تهاجم جسدي واردد: نامي كورقة ريحان بين دفتي كتاب..