فاروق يوسف*
وقفت تحت شجرتها التي تقف وحيدة لأنها خُلقت لكي تكون كذلك. قالت كما لو أنها تشير على شيء آخر “يمكنها أن تكون عملا فنيا معاصرا. أقصد على مستوى المفهوم” تلك الشجرة هي واحدة من مفردات قريتها المهجورة التي عثرت عليها في حمى بحثها عن مكان سحري تقيم فيه مشروعها الخيالي. وهو مشروع لن يكون واضحا قبل أن يعثر المرء على مكان له. حين مشيت بين دروب تلك القرية المهجورة شعرت أن في إمكان المرء أن يكتب رواية عن تلك القرية تكون شبيهة بروايات الواقعية السحرية. القرية المهجورة تستسلم لخيال شجرتها التي تبدو كما لو أنها خلاصة لعصور هي عبارة عن سطوح متراكمة من الذكريات. يمكنك أن ترى عقائد على هيأة صور وأن تتخيل بشرا على هيأة بيوت صامتة.
أعتقد أن الفنانة العمانية مريم الزدجالية قد خططت للتنقيب في تاريخ عُمان من خلال الصورة لا من خلال الكلمة. وهو ما لم يألفه العمانيون. هي هنا تتبع أثرا خالدا، من شأنه أن يشعل النار في العيون والعواطف في القلوب والرعشة في الأيدي. أمشي برفقتها وأنا أشعر أن هناك مَن يراقبنا ويشم رائحتنا ويقتفي آثار أقدامنا. هناك مَن يتلصص علينا. ما تبقى من عالم كان إلى وقت قريب منغمس في عاداته الاستثنائية. وهو ما يبعث الطمأنينة في قلب مريم التي تحلم في أن تبعث الروح في جسد المكان من خلال التغلغل في أحلام أهله المهاجرين. “الحجارة تنطق.
يمكننا من خلال الفن أن نلتقط كلماتها ونعثر على المعاني السحرية” تقول وهي تتلمس طريقها بين دروب المتاهة العصية على الوصف باعتبارها نوعا من ترجمة الماضي بلغة الحاضر. سيكون لكل زمن إيقاعه. من شدة التواء تلك الدروب يمكنك أن تسمع صوت رفيقك ولا تراه بالرغم من أنه يقف قريبا منك. ينقسم ظلك إلى نصفين. نصف تراه وآخر لا تراه. “إنها ليست مسرحا للحكاية التي لم يروها أحد. هي وحدها حكاية” تقول مريم وهي تطوي صفحة لتفتح صفحة أخرى. حكاية تدور حول نفسها مثل بيت الحلزون. مثل كوكب بعيد، بصل نوره بعد غيابه. “الغائبون يحضرون معنا حين نسعى إلى استرجاع ذكرياتهم” يا لها من مهنة شاقة لامرأة تدير في الوقت نفسه الجمعية العمانية للفنانين التشكيليين. لن نزيح حجرا من مكانه. فالأحجار تصنع إيقاعها من خلال تماسكها الذي صنعه الزمن. لا يمكنك أن تزيل جدار وإلا انهدمت القرية كلها فالبيوت يسند بعضها البعض الآخر. ألا تقلقي يا مريم الأرواح؟” أسألها “بالعكس أنا أجلب إليها ما يسعدها” تفكر مريم في سعادة مواطنيها الراحلين. تعتقد أن الهام الغياب سيصنع رحلة عبر الزمن الماكر. هذه ليست بيوت. هي مزارات يمكن أن يتخيل المرء من خلالها عوالم ذهبت إلى خفائها تاركة جمال صنيعها.
*شاعر وناقد فني