بدر بن سالم العبري
في صباح يوم السّبت 30 مارس 2019م كانت رحلتنا إلى صلالة بمحافظة ظفار، وتعتبر صلالة العاصمة الإداريّة والسّياحيّة لمحافظة ظفار، والأصل في هذه الرّحلة أن تكون من سنتين، ولكن لظروف حدث التّأجيل، والهدف الأساسيّ إقامة فعاليّة للجنة الفكر التّابعة للجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، بالتّعاون مع فرع الجمعيّة بظفار، والّتي بعنوان سننيّة قراءة الآخر، وسيأتي الحديث حولها.
انطلقنا السّاعة التّاسعة وأربعين صباحا أنا والأستاذ أحمد النّوفليّ من الموالح الجنوبيّة بولاية السّيب، وأخذنا عثمان التّنزانيّ، القائم بخدمة جامع الدّعوة بالموالح الجنوبيّة، ووصلنا المطار ولحق بنا الأستاذ كمال اللّواتيّ[2].
ثمّ ذهبنا إلى البوابة رقم B5، وأقلعت الطّائرة السّاعة الحادية عشر والنّصف، ووصلنا مطار صلالة الواحدة وست دقائق، ومطار صلالة زرته قبل تقريبا سنة 2008م، وكان بسيطا جدّا، أمّا اليوم بعد التّجديد فيعتبر أكبر مطار داخليّ في عمان، وواجهة رائعة في الجنوب، ووجود شبكة نقل متطورة تربط بين البلد الواحد والبلدان الأخرى ضرورة في الإحياء والنّماء، سواء كان جوّا أم بحرا أم برا، فهذا يساهم في إحياء الاقتصاد وإنعاشه، وفي تحريك الجانب السّياحيّ وتنميته، وفي ذوبان الشّعوب وتقاربها، فكلّما اقتربت الشّعوب من بعضها؛ جرّها ذلك إلى ضرورة التّعرف على الآخر، فإذا حدث ذلك ارتفعت الدّهشة من تصور وسلوك المخالف، وهذا يؤدي إلى الاطمئنانة بطبيعة هذا السّلوك والاعتياد الطّبيعيّ في التّعايش معه، فالتّعدد تصورا وتوجها ينمي الإحياء ويغذيه إذا أدركنا السّنة التّكوينيّة من الاختلاف، ووسائل الطّرق كما أسلفنا لها دور في ذلك، وعسى نرى اليوم الّذي نرى فيه القطارات والشّبكات الواسعة الّتي تربط بين العالم العربيّ بعيدا عن الحدود الجغرافيّة الضّيقة، حيث العالم العربيّ الواحد في إحيائه ونمائه وحاضره، المتعدد في ثقافته وأديانه ومذاهبه وتصوراته.
وفي المطار استقبلنا الأستاذان: الحبيب فيصل المشهور، والحبيب أحمد باعلويّ، وكلاهما شابان في قمّة الأخلاق والتّواضع، تميزا بعمق المعرفة، والوسطية في الدّين، ويحملان شعلة التّنوير والإصلاح، فذهب الأستاذ كمال في سيارة الحبيب فيصل، وذهبت مع الأستاذ النّوفليّ في سيارة الحبيب أحمد.
وهنا رأيت صلالة للمرة الثّانية، حيث زرتها مرة عام 2007م برا، ومرة أخرى فقط ترانزيت في مطارها قبل 2008 متجها لمحاضرة في نمر بالصّحراء، رأيتها هذه المرة وقد انكشف الغطاء، بلا ضباب ولا سحب كثيفة، ولا بعوض يضايقك في طريقك ومكان راحتك، ولا زحام ولا صراخ من قبل الشّباب في خريفهم حيث يجدون المتعة والرّاحة في الجوّ اللّطيف.
رأيت صلالة في طرقها وصفاء جوّها واعتداله، ورأيت أشجار النّارجيل تضفي بهاء على المكان وتتمايل ذات اليمين وذات الشّمال، وكأنّها ترحب بالضّيف غناء ورقصا، وصلالة عاصمة عمان الثّانية، وهي مركز ظفار وعاصمتها، تمتاز بالبخور واللّبان والنّارجيل، وفي صلالة وظفار عموما قبور تنسب إلى الأنبياء الثّلاثة: أيوب وعمران وصالح، أمّا النّبيّ أيوب (ع) حيث يقع على تلّة مرتفعة في صلالة، وأيوب ذكر في القرآن في أربعة مواضع، وكان آية ورمزا للابتلاء، وله سفر خاص في التّوراة (العهد القديم) سفر أيوب، والأديان الثّلاثة: اليهوديّة والنّصرانيّة والإسلام – على الأخص – تجمع على صلاحه ومكانته، بيد أنّه في الإسلام نبيّ، وفي التّوراة وعند النّصارى رجل صالح، وحسب التّوراة يكون قد توفي في القرن الخامس عشر قبل ميلاد السّيد المسيح (ع)، وذكر بعض المؤرخين من المسلمين أنّه من نسل إسحاق ابن إبراهيم (ع)، وفي سفر أيوب أنّه من أرض عوص، وهو عوص بن آرام بن سام بن نوح (ع)، ومن المعلوم أنّ من أنبياء هذه الفترة هود إلى عاد، وصالح إلى ثمود، وشعيب إلى مدين، وارتبطت عاد بالأحقاف، وهي جبال رمليّة تمتد من شبوة اليمن إلى عُمان، ويدخل فيها ظفار والمهرة، فلا يستبعد أن يكون أيوب من هذه المنطقة، نسب لاحقا إلى فلسطين؛ لأنّ النّسبة إلى فلسطين مشكوك فيها، خاصّة بعد التّوراة السّبعينيّة، وهذا ما يراه مثلا كمال الصّليبيّ [ت 2011م] أنّ يونان [النّبيّ يونس (ع)] أنّه أي “يونان وجد سفينة إلى ترشيش، وترشيش من البحار الّتي يعيش فيها الحوت، وهي المحيط الهنديّ ومنها بحر العرب وخليج عمان، ووجد في غرب صلالة كهوف شرشيتيّ (شرشيت بالاستبدال) وهي قاعد ظفار في القديم، ولعل بهذا ترشيش يطلق قديما على بلاد ظفار، ومنها ميناء صلالة”[3]، فوجود الأنبياء في هذه المرحلة في جزيرة العرب شيء وارد جدّا، بيد أنّ التّوراة تعتبرهم رجالا صالحين خلاف القرآن، وهذا لا يستبعد أيضا من النّبيّ أيوب (ع) أن يكون من نفس المنطقة، إمّا كذات النّبيّ نفسه، أو كان رجلا صالحا تيمن باسمه.
وأمّا النّبيّ عمران فقبره في صلالة، ويبغ طوله ثلاثون مترا، ويعتبر من القبور الطّويلة في العالم، والسّؤال هل يوجد نبيّ اسمه عمران؟ وكلمة عمران وردت في القرآن ثلاث مرات، مرة أسندت إلى آله وأهله، ومرة إلى أم مريم، ومرة إلى مريم ذاتها [القدّيسة العذراء]، ولكن لا يوجد إشارة في القرآن إلى نبوته، وفي الأدبيات التّراثيّة الإسلاميّة أنّ أبا موسى اسمه عمران، وفي سفر الخروج من العهد القديم (التّوراة) اسمه عمرام، “وقد تزّوج يوكابد فأنجبت له هارون وموسى”، ولموسى وهارون أخت اسمها مريم، كما في سفر العدد: “واسم امرأة عمران يوكابد بنت لاوي، الّتي ولدت للاوي في مصر، فولدت لعمرام هارون وموسى ومريم أختهما” [عدد: 26: 59]، فالعهد القديم يوضح نسب نبيّ الله موسى، وأنّه يرجع إلى إسحاق ابن إبراهيم (ع) عن طريق عمرام (عمران)، وله شقيقان: هارون، ومريم، ويظهر من قوله تعالى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه/ 94]، قول هارون لأخيه موسى: يا ابن أمّ، لا يعني فيما يبدو أنّه أخ له من أمّه، وإنّما كعادة الأمم السّاميّة ومنها العرب ينسبون الشّخص إلى الأم، ويهتمون بنسب الأم كثيرا.
بيد أنّ القرآن لم يتحدث عن أبي موسى وهارون ولا أختهما مريم بالكليّة، إلا إشارة بسيطة في سورة القصص مثلا إلى الأم والبنت، دون تعيين الأسماء كالعادة، وهذا سيختلف مع مريم، الّذي سيشير إلى ذكر أبيها [ابنة عمران]، ويذكر أمّها مسندة إلى زوجها [امرأة عمران]، بيد أنّه في العهد الجديد [الإنجيل] لا يوجد اهتمام بأم وأبي مريم، إلا إشارة إلى نسب خطيبها يوسف النّجار كما في إنجيل متى الإصحاح الأول، وأنّ يوسف ابن يعقوب ابن متّان حيث يعود نسبه إلى النّبيّ داود (ع)، بيد أنّه في إنجيل لوقا [1: 30 – 31]: “فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم؛ لأنّك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتليدين ولدا اسمه يسوع، هذا يكون عظيما، وابن العلي يدعى ويعطيه الرّب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية”، فلا يوجد إشارة لأب مريم إلا عند الأقيسة والتّخمين حيث اعتبر بعض اللّاهوتيين أنّ اسم أبيها: يواقيم.
لهذا حدث جدل في السّاحة التّفسيريّة عند المسلمين، فاعتبر الأشهر أنّ عمران أبا مريم وزوج أمّها غير عن عمران أبي موسى، وهارون أخا مريم غير عن هارون أخي موسى، وأنّ عادة بني إسرائيل يسمون باسم أنبيائهم تيمنا، ويرى ابن قرناس [معاصر] أنّ مريم بالكليّة أم عيسى غير عن مريام أم يسوع، فهما أشخاص مختلفون بينهما أكثر من ألف سنة، لهذا حدث الشّبه في الصّلب بنسبة الصّلب إلى عيسى بينما المصلوب هو يسوع[4]، ويرى فريق ثالث أنّ نسبة مريم إلى عمران ليس نسبة بنوة، وإنّما نسبة إلى العشيرة والفرع من بني إسرائيل كما في إنجيل لوقا نسبها إلى بيت داود، وداود من بني إسرائيل.
والقول الثّالث فيما يبدو لي أصح الأقوال، خاصّة وسياقات القرآن تشير إلى ذلك، حيث يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران/ 33]، ولهذا البيت من بني إسرائيل كان: امْرَأَةُ عِمْرَانَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ، بدلالة أنّ القرآن لا يهتم بالنّسب الأبويّ أولا، وثانيا المسألة تتعلق بالعرض لهذا كان الاهتمام بشرف البيت أو الفرع، وكلام ابن قرناس مع احترامي له بعيد عن الصّواب، وإن كان تحليله فيما يتعلّق بعيسى وأمّه رائعا جدّا، ولعلّ مناسبة أخرى نناقشه فيه.
فعمران هنا هو الأصل وهو أبو موسى على الأشهر ويرى بعض اللّاهوتيين جدّه، ولا يوجد دليل على نبوته لا في التّوراة ولا القرآن، فهو رجل صالح، قد يكون من منطقة ظفار، وقد يكون عمران ظفار رجل صالح آخر، خاصّة طول قبره – إن صح – يرجع أنّه في فترة العمالقة.
كما يوجد في المحافظة قبر النّبيين صالح وهود، وهما من الأنبياء العرب، وأمّا صالح فالأشهر أنّه دفن مدائن صالح شمال المدينة المنورة بالمملكة العربيّة السّعوديّة؛ لأنّه من ثمود، وثمود بمنطقة الحجر، وفي هذا يقول القرآن: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر/ 80]، وأمّا نسبة قبره في ظفار فهي في وادي أنحور بين حاسك وحدبين، وأمّا هود فهو من أرض الأحقاف من قوم عاد، ولا يستبعد قبره في ظفار، وبعضهم أشار إلى وجود قبر شعيب وهو من أهل مدين.
وعموما بغض النّظر عن صحة النّسبة؛ يصبح ما روي من الآثار الّتي تحوي البعدين الشّفويّ والماديّ، والاهتمام بهذا التّراث ضرورة؛ لأنّه يشجع الجانب السّياحيّ، ولا علاقة له بالشّرك، مع أنّي ضد نظريّة التّوسل والدّعاء للقبور لعموم قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر/ 22]، ولكن أن نشرّك من يفعل ذلك فهذا تنطع بعيد، لوجود خيط التّأويل، والمتأول لا يشرك، وفي الوقت نفسه من التّنطع إهمال هذا التّراث وعدم توثيقه والعناية به، والحفاظ عليه للإحياء السّياحيّ، لهذا يحفظ هذا التّراث ويوثق التّراث وإن صاحبته الشّكوك؛ لكنّها تبقى رواية في الجملة تفتح مجالا للبحث والنّظر، بجانب وجود قبور عديد لصالحين وأضرحة أولياء لانتشار الفكر الصّوفيّ في ظفار عموما، وصلالة بشكل خاص.
وصلنا إلى بيت والدة الحبيب سالم المشهور، والحبيب سالم غني عن التّعريف، فهو داعية وحدة، ومشعل تنوير وإصلاح، عميق النّظر، واسع الاطلاع على صغر سنه، وهناك تعرفنا على الأستاذ الشّيخ سعيد المعشنيّ، وهو من أهل طاقة، وإمام وخطيب تابع للدّيوان، حافظ للقرآن، واسع الاطلاع في الفقه الشّافعيّ، من نقاشه ومحاورته كأنّك ترى محمّد الغزاليّ [ت 1996م] في انفتاحه واعتداله، كذلك التقينا بالشّاب الطّموح، القارئ النّهم، ذي التّواضع الجم، محسن آل حفيظ، وهو من أهل مرباط، مع حضور ولدي سالم المشهور الزّهراء وأخيها.
وبعد حديث افتتاحي استأذناهم لصّلاتي الظّهر والعصر، وبعد الصّلاة لحق بنا فضيلة الشّيخ الدّاعية الحبيب علوي الكاف، وهو رجل من الصّحابة الأوائل، الّذي وسع قلبه الجميع، حيث أحبّ الكلّ، فأحبّه الجميع، من مختلف المذاهب والتّيارات، يذهلك بعفويته ومحبته وتواضعه، وأصر علينا أن نزور فضيلة القاضي أحمد الخطيب كما سنرى في الحلقة القادمة، لهذا كان الغداء اللّحم بأنواعه، حيث تغدينا في الرّابعة عصرا، وعندهم الأمر طبيعي فيما يبدو أن يتأخر الغداء حتى عصرا، حيث أخذنا الحديث في جوانب فكريّة واجتماعيّة وفقهيّة عديدة، ولا ننسى هنا الأستاذ الجليل عبد الله العليان، فكان يتواصل معنا أولا بأول، ولولا ظرفه لشاركنا، وسنتحدّث عنه في حينه.
[1] بدأت كتابة الرّحلة في منطقة السّعادة بصلالة يوم الأحد 31 مارس 2019م، ثمّ توقفت لدخول رمضان، ثمّ ظروف بحثيّة أخرى، إلا أنني استأنفت البداية يوم الاثنين 8 يوليو 2019م بالغبرة بولاية بوشر بمحافظة مسقط.
[2] سبق التّعريف عن الأستاذين في الرّحلة الكويتيّة، في إضاءة قلم، الحلقة الأولى، حلقة التّعايش.
[3] للمزيد ينظر: خفايا التّوراة لكمال الصّليبيّ، دار السّاقيّ، ط7 2012م، ص 281 -300.
[4] ينظر مثلا: الشّريعة والمنهاج لابن قرناس، ط منشورات الجمل، لبنان/ بيروت، ط 2015م، ص: 195 وما بعدها.