وفاء بنت سالم
لطالما كنتُ محاطة بعدد كبير من الإخوة والأخوات، الأشقاء وغير الأشقاء، ولطالما كان العدد الكبير الذي أنتمي له يثير مخاوفي وغضبي بعض الأحيان .
فهل كبرت ليختفي هذا الخوف؟
الحقيقة لا، فبعد أن أصبحتُ أمًا أدركت حجم التعب والمعاناة التي كانت أمي تعيشها مع عشر فتيات وخمسة فتية .
إن كونكِ أمًا لا يعني أنكِ أمام مهمة سهلة ولا حياة سلسة إن الأمر أكبر من ذلك، وأكبر من كونك حُبلى أو مرضعة أو غير ذلك .
على كل أنثى ترغب بالأبناء أن تكن كفوء لتلك المهمة، وأقول مهمة لأنها لا تنتهي تحت سن معين، فبما أنك أصبحتِ أمًا فأنت معنية بالتربية، التوجية والعناية .
لا ينتهي دوركٍ كأم مع أول يوم دراسي لإبنك ولا لبدء ظهور علامات النضج لديه، إن كل يوم يمر علي أدعوا الله فيه أن يبارك لي في أمي، تلك المخلوقة الرائعة التي لا تجيد قراءة شيء سوى إسم الله ولا كتابة كلمة عدا إسمها، تلك التي غادرت حضن أمها طفلة وعانت من جبروت وطغيان زوجة الأب وفي سن غير ذي زرع تزوجت بوالدي الذي عانت معه من زوجاته السابقات واللاحقات صنوف الأذى، إن هذه الأم أقف أمامها عاجزة عن كل شيء عدا الدعاء لها .
في عام 2007 أصبحت زوجة، وفي عام 2008 رزقني الله بطفل يعاني من تشوهات في القلب، معاناة رافقتني من اللحظات الاولى لي مع الأمومة، وبعد عام ونصف نجى طفلي من تلك التشوهات بفضل الله ورعاية الأطباء في العملية الجراحية له .
وفي عام 2010 أصبحت أم للمرة الثانية ومنها قررت أني لستُ مؤهلة لتربية عدد أكبر من الأبناء وأكتفيت كأم بولدين أدركت معهم أن الأمومة سهلة الحدوث صعبة الإتمام .
أن تكوني أمًا يعني أن تكون ولادتكِ متجددة مع ولادة كل طفل لك، أن تكبرين معهم، تفكرين، تأكلين، تلعبين، وتتحدثين مثلهم .
إن الكتب التي تقرأينها في تربية الأبناء أكرر قولي (لا تسمن ولا تغنِ من جوع )، إن التربية ليست بالأمر السهل ولا الهين إنها أشبه بالإمتحانات الصعبة التي مرت بنا أيام الدراسة، ولكن هذه الإمتحانات متكررة وقد تنجحين في إجابتها بتفوق إذا كانت الأسئلة تخص غيرك وتقد تفشلين إذا كانت تخصك .
إن الأطفال مخلوقات ليست بالغريبة ولكن طرق التعامل معهم ليس بالأمر الهين وليس في الفشل معهم عيب بل سبيل لتكرار تجارب وحلول أخرى حتى تدركين كأم أين أنت منهم وأي صف من صفوف الحياة .
لا أستطيع القول أن كل مرحلة من مراحل تربية الأبناء والعناية بهم سهلة، فكل سن له تحدياته وصعوباته تلك التي تجعلنا نلجئ لمن سبقونا للأمومة .
هل يحتاج الأبناء لما هو أكثر من التربية ؟
أجل إن الأبناء يحتاجون لما هو أكثر من التربية ودمجهم مع المجتمع وإحاطتهم بالجد والجدة ,العم والعمة والخال والخالة .
يحتاجون لما هو أكثر من صداقة أطفال في سنهم أو دمجهم في كيفية مشاركتهم هواياتهم مع من هم في سنهم.
يحتاجون لما هو أكثر من مصروف شهري أو يومي وأكثر من جهاز لوحي ولعبة بلاي ستيشن .وأكثر من مكتبة ملأ بالكتب والموسوعات وغرفة تضم الألعاب ,ورحلة شهرية .
يحتاجون لنا .لصحبة الأم والأب .لسماع أصواتهم ,قراءة أفكارهم ,إعتراضاتهم تمرداتهم غضبهم صراخهم ,يحتاجون لصحبة الأم ساعة والأب ساعة أخرى .
وبعد هذه المقدمة الطويلة أستطيع أن أنقل لكم تجربتي كأم مع أبنائي .
إبني الأكبر يبلغ من العمر 11 عامًا والأصغر 9 أعوام وأمام التحديات والصعوبات التي أعيشها معهم في تربيتهم وتقبل كل التقلبات والإختلافات بينهم كان أن إتفقت مع والدهم بأن يخصص لكل واحد منهم يومًا في الإسبوع، يومًا يقضيه مع كل واحد على حده ليستطيع فهمه والتقرب منهم، ويومًا في الشهر يأخذهم سويا معه في مشوار طويل يدعوهم فيه لتناول وجبة ما بعيدا عن المنزل، وأعترف بأني منذ تلك اللحظة لم أعد أتدخل بينهم .لقد احترمت العلاقة الجديدة بينهم حتى لو كانت في بعض الأحيان تثير نرفزتي .
في المقابل جعلت يومًا في الشهر يوما عائليا نقضيه خارج المنزل كلما سمحت لنا الظروف والأهم أن يكون هناك تجمع يومي قبل النوم,ومن المهم أن نكون جميعا على نفس السفرة (مائدة الطعام )حتى لو لم يرغب أحدنا بأي وجبة من الوجبات .
لكني أمام كل الخطط التي وضعتها لهم وجدتني أقضي كل وقتي مع عائلتي داخل محيط المنزل وإذا ما كان في الخارج ففي نفس المحيط الأسري وبرفقة والدهم، لم أجرب أخذهم بعيدا عن محيط الأسرة الصغيرة والكبيرة وكان أن قررت هذه المرة خوض هذه التجربة بعد أن ألغيت من جدولي الكثير من الأمور التي كنت أرتب لها منذ أكثر من عام والتي أدركت بأن الترتيب اللفظي لا يصنع فارقًا ولا يعول عليه.
كان قراري أن أخذ أبنائي لرحلة مع إخوتي، وبعدها أذهب لقضاء أسبوع صيفي في بلدة تبعد عن بلدتي خمس ساعات بالسيارة بعيدا عن والدهم واسرتهم الكبيرة، وأدركت منذ اليوم الأول لي معهم أني أمام تحدٍ كبير وأمور جديدة سأتعلمها منهم.ففي البدء رتبت لهم جدولًا محددًا لكيفية قضاء الأيام ففي اليومين الأولين بين سباحة وكرة القدم والأحاديث المطولة بعيدا عن الأجهزة والتلفاز .
اليوم الثالث لعبة مشتركة، حديث مشترك، زيارة أقارب لي، ملاحظة تصرفاتهم وهم في ضيافة أقاربي من طرف والدي.
اليوم الرابع لعب كرة قدم، قراءة، كتابة تعبير باللغة العربية والإنجليزية، التجول مع قريبي في المزرعة الخاصة به .
اليوم الخامس كتابة بعض المفردات ونطقها مشكلة، مشاهدة مباراة كرة قدم، مشاهدة فيلم أنمي في السينما.
اليوم السادس جولة ترفيهية تعليمية في متنزه العين للحيوانات البرية، قضاء فترة المساء في قمة جبل حفيت .
اليوم السابع العودة للديار مروراً بمنطقة أخرى تقيم فيها شقيقاتي كزيارة سريعة ثم العودة للمنزل.
هكذا كان جدولي طوال أسبوع مع أبنائي مع إضافة نقطة يومية، وهي: أحاديثي اليومية معهم بعيدا عن الحاسب الألي، الكتب والهاتف وما لاحظته كان أشبه بدرس أخر.
إبني البكر بدأ يكبر ويزداد عنادا حتى أنه إضطرني لصفعه بسبب رفع صوته علي وذلك لأنه لم يحترم قانون المنزل الذي كنا فيه .
أدركت أنه لا يحب أن توضع له القوانين بإستمرار كما أنه يتجاهل كل الأوامر التي لا تعجبه، يتنمر بعض الأحيان على أخيه، علاقته بالأجهزة قوية جدا وكرة القدم أيضا رغم الجدول المتبع له في بيته.
وأنه كثير التوعد وعدم النسيان، صعب التكيف مع أي محيط جديد، صعب المراس والمعشر، غير محبب من الجميع، قيادي بطريقة متنمرة. كما أنه يلاحظ كل شيء وقتما يشاء ويتجاهل وقتما يشاء أيضا، وأن الكتابة بالنسبة له لا تتعدى الثلاثة أسطر أما عدا ذلك فهو مضيعة لوقته وطاقته، وأن قوة ذاكرته هي نقطة القوة لديه، قادر على إثارة غضبي وإستفزازي مع فشلي لمرة واحدة على ضبط غضبي الذي تسبب به حين استفزني برفع صوته وعناده لي .
الإبن الثاني
والذي إعتقد الجميع أنه لن يستطيع الحديث فهو يخاف على شقيقه كثيرا وحنونا عليه لدرجة عظيمة، بدأت شخصيته بالنضوج بشكل محمود، يهتم كثيرا بتنمية مهاراته الكتابية والنطقية وذلك لمعاناته من صعوبة نطق بعض المفردات ذات المدود الطويلة .
يهتم بأفلام الأنمي كثيراً وقناة ناشيونال جيوجرافيك وقنوات سباقات الخيول وكرة القدم .
يحب الرسم ولا يحب كتابة تعبير باللغة الإنجليزية، يحب تجربة الأشياء الجديدة ويحترم قوانين المكان الذي يذهب إليه، كثير الأسئلة المتعلقة بالبحث والمعرفة، سهل التكيف مع المحيط الجديد، حبيب المعشر .
كثير الملاحظة، سهل الفهم، يستطيع تقييم الأمور بسهولة ومحببًا لدى الجميع، قيادي يطريقة إحترافية .
يستطيع إمتصاص غضبي من شقيقه والتوسط له لمسامحته وانهاء ساعات العقوبة له.
هو أسبوع أعدت فيه جدولة كل شيء وبدأت أتعلم منه مرحلة جديدة من مراحل نضج الأبناء تلك التي يزداد فيها الشد والجذب والتي أنصح وبشدة أن نبتعد فيها عن استخدام لغة الضرب والشتم للأبناء، كأم حتى الأن أعاتب نفسي على الصفعة التي وجهتها لوجه ابني والتي أدركت منها كم يسهل إستفزاز الأم من إبن مراهق .وأن أبنائنا ليسوا نحن في كل ما نتصوره ولا نتصوره وأن زماننا غير زمانهم وأننا قد نكون الأخطر الأكبر لهم .إن تربية الأبناء تحتاج لتربية ونضج للأباء قبل كل شيء.
ثم أنه عليك كأم أن تنفصلي عنهم مدة أسبوع كامب تقضيه بصحبة زوجك، أسبوع تجددين فيه مواثيق المحبة بينكم وتضعون فيه خطط تنمية وتربية أبنائكم.
وأخيرا:
أيتها الأم الأنثى لا تبخسي نفسك حقها ولك مثلما يقضِ من حولك أوقات مكررة مع صحبهم بعيداً عنك .لك كل الحق بعزلة ولو ل 48 ساعة بعيدا عن حياة الاسرة ومسؤليات الامومة والزوجة حتى تستطعين مواصة العطاء بحب .