بقلم: زينب شمس الدين (لبنان)
في منحوتة روحه “كنتُ نيّئًا فنضجتُ” لامس خالد محمد عبده جوهر الوجود, فاض بالحقيقة كما يراها, فاض قلبًا و فاض وعيًا, أراد أن يحيا الحقيقة حتى النخاع. فالنصّ بإيقاعه و خفقاته و موسيقاه الداخليه هو أنين ناي خالد ومحاولته أن يموت ليبعث حقا.
تظهر روح خالد العاريه منعكسة في ثنايا النص. أراد أن “يكون” فحسب , بلا مواربة. بحث خالد عن الله تعالى في تفاصيل الحياة بكل ما فيها من ألطاف و قسوة و معان و ظواهر و تجليات فحضر في نص الحياة ليغيب. صرخ خالد بالمعنى كما عرفته روحه ليوقظ جوهر الإنسان في أزمنة القحط و المادية و خرافات الكفر و الإيمان.
قالها خالد صوفيًّا: “غبْ عن الطريق تصل إليه”. أرادنا أن نكون حقيقيين , أن نسقط الأقنعه, أن نرقص عشقًا, أن نصرخ ألمًا, أن نسلك درب الجلجلة مرفوعي الهامة بقدسية السيد المسيح عليه السلام.
شقّ خالد عن صدره و صدرنا فأحرق القلب النابض بالحق بنار الرحمة, فداء لكل روح حرة حتى تلك المحكومة بنار العقاب و المكبلة بأحكام البشر الظالمه.
في سكون النص و الصمت العميق للمعنى يتعتق خمر الوعي الذي عرج بروح كاتبه إلى عوالم النور الإلهي حيث يجالس الفقراء و البسطاء و المستضعفين تحت ظل عرش الحب الإلاهي.
اقتحم خالد بوعيه عوالم الظلمة و الحجب و الظلال في دورة خلقه الجديد ليخرج إلى النور ثائرًا، كزهرة لوتس متكئة على كتف الكون. خفّف خالد عنّا وطأة جلد الذات حين أخرجنا من سجون الخوف، لنرى معه أن كلّ نفس هي نفس مطمئنة، لأن الله تعالى برحمته أراد لها ذلك و عمّدها بنور قدسه و أسبغ عليها فيض غفرانه الأبدي.
حَمَلَنا خالد على أكف الرحمة، لنجلس مع نصّه على شواطئ محيط الوعي العظيم، و ننظر بعين الحكمة إلى كل “بشارة” في طريقها إلينا كيد إلهية حانية تمسح وجع الروح و تمنح كلّ حدث أو تجربة معناها الباطن.
نظر خالد بعيون قلبه في عيون روح الكون، فأدرك بعض أسراره و اختبر فيض معانيه الأبديه. نطق خالد بصمت الحقّ فيه وتدفق دمعًا و حكمة و تسليما لسر الوجود ,كصوفي عتيق الروح يرقص رقصته في دوران لا متناهٍ مع صمت هذا الوجود.
يخرجنا خالد عبر نصه من أطر المنظومات العقائدية، إلى فضاء الخير الإنساني الرحيب، حيث يتجلى الله في كل الطرق المؤدية إليه.
تتصل روح خالد بروح مولانا جلال الدين الرومي و رفيق روحه شمس الدين التبريزي , فيرسم لنا عبر وعيه القلبي معنى الصوفية من خلال تلكما الروحين اللتين استجابتا لإرادة الحقّ فاستجابت إرادة الحق لهما وجمعت شتاتهما ليكونا نورا واحدا، و روحا مبصرة تنفذ بما أوتيت من وعي إلهي إلى عالم الروح و الحق و الحقيقه.
كما و يسرد خالد بعضًا من ملامح طبيعة العلاقة الروحية الخاصة التي تربط كلا من الرومي و شمس أحدهما بالآخر و حاجة أحدهما الوجودية للآخر في رحلته نحو الكمال الروحي. يسلط خالد الضوء على نطق الروح الفرد التي كانت تنساب بين هاتين الكينونتين, فقد كان نطق أحدهما أنفاسا وحياة للآخر.
يكتب خالد عن معنى أن تكون مريدا للنور,كل نور, والذي لابد أن يكون المرء مستعدًّا من أجله لبذل روحه,كل روحه. فالتصوف في أعمق تجلياته هو تحقيق لمعنى “اللهم اجعل في قلبي نورا, و في سمعي نورا,و في بصري نورا….و اجعل لي نورا”.”
التصوف هو أن تكون نورا لك و لغيرك….أن تسافر في الغربة إلى الله تعالى…أن تشتغل بالتفكر”.
يرى خالد في كلّ من يخدم البشرية تسبيحة ذكر إلهي يظل يتردد في أرجاء الإنسانية “الخدمة ذكر ,تسبيحة تربط قلب الإنسان الحق بقلب ربه.”
في بوح روحه , سرد خالد حديثا مطوّلاً عن جوهر الصوفية و أحوال المريدين الذين مرّ بهم في رحلة الحياة عبر نصوصهم التي طالعها أو مريدي الطريق الذين عاشرهم و اختلط بهم و راقب أحوالهم: نحن “لاشيء” و ليس هناك إلا “هو”.
.يضع خالد المنظومة الروحية للرومي في إطارها الإنساني و الكوني الواسع بعيدا عن سخافات دعاة الثقافة الحديثة السطحية و الهشه.
يحدثنا خالد في نصّه عن الطريق الصوفي الكلاسيكي القديم و ضرورات تحققه و شروطه ثم يفتح الباب للباحثين ليولوا اهتمامهم بـ”ما بعد الطرقيه” كلونٍ صوفي منتشر في واقعنا المعاصر , متجاوزا بذلك حدود البلاد العربية و الإسلامية الى الغرب، حيث التصوف حالة متحررة من الأطر التقليدية السائده.
يدخلنا خالد معه الخلوات و المقامات و الأضرحة الشريفة حيث يلتقي جوهرنا بنور الحكمة و عمق السكينة و طاقة الشفاء من كل داء يصيب النفس و الجسد.
كما يتحدث في فضاءات نصه عن أهمية التصوف كتوجه الى عمق التعاليم الإسلامية و صلب الرسالة المحمديه, حيث يكون التصوف طريقا يعود عبره الإنسان الى حقيقة المعنى مهما شغله الغياب. فالتصوف حالة من التدين تتسم بالحب والتعددية والإخاء و السعة و الرحمة و التسامح و قبول الاختلاف. التصوف “حديث مع الله” و “تحرر من الأيدلوجيات التي تلغي و تبطل ما سواها” وهذا الارتباط بنور الله تعالى وفهم حكمة الاختلاف هو رحمة عظيمه بحد ذاتها.
يرى خالد حاجة مجتمعاتنا الى التصوف الذي يساعد في إعادة صياغة نظرتنا الى الحياة و الدين و الإنسان في لحظة انكشاف حقيقي دون حجب.