بدر بن سالم العبري
أصل الحدّ في اللغة هو الحاجز بين شيئين لئلاّ يختلط أحدُهما بالآخر، وحد الشَّيء تعريفه الجامع لكلّ أفراده، المانع لكلّ ما ليس منه، ومنه قيل في حد التعريفات أن تكون جامعة مانعة، وعند المناطقة الحد هو القول الدال على ماهِيَّةِ الشيء، وعند أهل التفسير الحد ما حدَّه الله تعالى بأَوامره ونواهيه، وعند فقهاء الجنايات الحد هو عقوبة مقدرة في الشرع؛ لأجل حق الله تعالى.
وعلى العموم الحدود هو السور المتعلق باللوازم من حيث الفعل أو الترك، أو هي الدائرة الضيقة، وذلك لأنّ الأصل في الحياة الدائرة الواسعة، وهي ما يعبر عنها بدائرة الإباحة، أما دائرة الإلزام من حيث الفعل أو الترك فهي دائرة ضيقة جدا، وفي الوقت نفسه واضحة، ومبينة، يقوله سبحانه: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[1]، أي فرضنا فيها حدودا واضحة.
وكما أنها دائرة ضيقة فهي قطعية من حيث الورود، لذلك يلصق بها الحلال والحرام، مع سعتها دلالة، وقد تضيق إذا كانت قطعية الدلالة.
وأمّا الأدلة الظنية فهي تبقى في دائرة الظن، وتكون خاضعة للأدلة القطعية فهما وإنزالا لها.
وعلى العموم استخدم القرآن الكريم هنا لفظة (حدود) لارتباطها بالوضوح أو الآيات البينات، أو ما تقدم من الأحكام الواضحة.
وبعض أهل التأويل ربطها بالمباشرة في الاعتكاف، وبعضهم ربطها بالحدود الأربعة، من قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وحتى ثم أتموا الصيام إلى الليل.
أما الربط بالمباشرة فضعيف لتفخيم وعموم لفظة (تلك)، وأما القول الثاني فصحيح تخصيصا، لأنّ الله تعالى ختم آيات الصيام بتفصيل الجانب المتعلق من أحكامه الكلية كالأكل والشرب والجماع، والجانب الزمني والوقتي، ولأن الله تعالى ربط الحدود بقوله: فَلَا تَقْرَبُوهَا، والجزء الأخير من آيات الصيام في بيان المنهيات المتقدم ذكرها.
إلا أن الجانب العمومي في الحقيقة يرتبط ولو في الجملة وذلك من بداية قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ولذلك ختم الله تعالى الآيات بالتقوى كما افتتح الآيات بالتقوى في سياق بديع، كما سنراه في اليوم القادم والأخير بإذن الله تعالى.
وفي الجملة نجد هذا الجزء من الآية يفتتح باسم الإشارة المفيد للبعيد والمراد به التفخيم (تلك) لبيان عظمة هذه الحدود ومكانتها عند الله تعالى، والتزامها من تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[2].
ثم أضاف الله تعالى الحدود إليه فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، فلم يضقها إلى رمضان أو الصيام، وفي هذا مقصدان حضاريان عظيمان.
أما المقصد الحضاري الأول فهو الجانب الإخلاصي، وهذا أشرنا إليه بإسهاب في الأيام الأولى، وذلك لكي يتعلق الإنسان بالله سبحانه وتعالى لا بذات رمضان، فيجتنب المنهيات لأجل رمضان، فإذا ما ذهب رمضان ذهب كل شيء، أو حتى في رمضان نفسه، ففي نهاره أني صائم، وفي ليله أني منتهك لحرمات الله تعالى، فالله هنا يعطينا دورة توحيدية لنرتبط به، ورمضان مدرسة للتوحيد لا لإشراك مع الله مخلوقا زمنيا لا ينفع ولا يضر.
والمقصد الحضاري الثاني تفخيم الحدود ذاتها بنسبتها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي حدود متعلقة بمباحات في الأصل، غير محرمة على البشر، مرتبطة بطبيعة الإنسان وفطرته التي فطر عليها.
ومع ذلك نهي عنها ليتربى الإنسان على البعد الفطري الطبيعي في لوازم أمر بفعلها، أو لوازم أمر بتركها، تضر عقله ونفسه وعرضه وماله، لتكون الحياة جميعها صياما عن الحدود التي أمر الإنسان بتركها أو الالتزام بها إلى أن يلقى الله تعالى.
وناسب هذا المقام أن تكون في نهاية آيات الصيام، مع النهي عن قربها، لتكون خاتمة خير لعام يستقبله الإنسان بعد دورة شهرية وقف فيها مع حدود الله تعالى، لينطلق إلى الحياة أكثر إشراقا وبناء وارتباطا بالله سبحانه وتعالى.
[1] النور/ 1.
[2] الحج/ 31.