بدر بن سالم العبري
الاعتكاف في اللغة المكوث ومنه اِعْتَكَف في بَيْتِهِ أي لَبِثَ مُقيماً فيهِ، ولَزِمَهُ، وأقامَ فيهِ، واِعْتَكَفَ الطَّالِبُ على القِراءةِ والْمُراجَعَةِ : تَفَرَّغَ لها، وأَقْبَلَ عَلَيْها وَلَمْ يَنْصَرِفْ عَنْها، واعْتَكف على الشيءِ عكف عَليه[1].
وعند الفقهاء يعرّف باللبث في المسجد للعبادة، أو الاحتباس فيه على خلاف كبير بينهم في أقله وزمن الاعتكاف وشروطه، وهل يشترط فيه الصّيام أم لا؟!!
وجاء ذكر الاعتكاف في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[2]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[3]، واستأنس بعضهم فيه بقوله سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ[4].
وعلى العموم قضية الاعتكاف في القرآن الكريم تحتاج إلى تأمل وبحث مستقل، وتتبع الكتابات الأولى في هذا الشأن، وإعادة قراءة المرويات قراءة جديدة.
ومع هذا قوله تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، فالمقصود بالعاكفين حسب المشهور عند أهل التفسير بالمقيمين فيه، أي عكس الزائرين أو الآفاقيين، وقيل المقصود به الزائرين الملازمين له لفترة من الزمن، فعن عطاء في قوله: والعاكفين، قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده، وقال لنا ونحن مجاورون: أنتم من العاكفين، وعن ابن عباس ت 68هـ قال: إذا كان جالسا فهو من العاكفين.
أما قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، فالعاكف هنا أهل مكة والباد النازل بمكة، فهم سواء لا فرق بينهم، وهذه أهم المقاصد التي أرادها الله تعالى في بيوته وفي العبادات وهي تحقيق المساواة بين الناس، ومنهم من رأى هم سواء حتى في المنازل، لذا ذهب بعض المتقدمين أن جميع دور مكة وقف لا يباع ولا يؤجر، وهذا المذهب شبه انقرض، وإن كان مثارا في عهد الصحابة وكبار التابعين فيما يبدوا.
أما آية سورة النور المتقدمة فلا تدل بحال على الاعتكاف، عدا أنها تشير إلى حال بيوت الله تعالى من ملازمة الذكر والعبادة فيها.
وعليه فيما يبدوا لي والله أعلم أنّ الاعتكاف المراد في قوله تعالى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، المراد به الملازمة، أي كانوا كثيري الملازمة للمسجد في رمضان.
وقد كانت المرأة حينها في عهده عليه الصّلاة والسّلام تشارك الرجل في المسجد، ولم تمنع أو تعزل بحاجز إلا متأخرا، وقد كانت تصلي في نفس المكان الذي يصلي فيه الرجال، إلا أنها تصلي في الخلف.
فالاعتكاف في القرآن بمعنى الملازمة الكثيرة، أما حده بالاعتكاف الحالي فلم يرد في كتاب الله تعالى، ويحتاج إلى دراسة بحثية في تطوره وتدرجه، لعل الزمان يتيح لنا ذلك بإذن الله تعالى.
وكثرة الخلافات، وعدم وجود الصورة الواضحة، دليل دخول الاجتهاد البشري إليه بقوة، مما ولد استنتاجات بشرية تحولت إلى جانب مقدس.
وعموما الله تعالى هنا ينهى في هذا الجزء عن ملامسة النساء وقت الاعتكاف، مع إشارته مع إباحته في الليل في نفس الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
ثمّ إنّ العلماء اختلفوا في الملامسة فقيل على الأكثر المراد بها ذات الجماع، وقيل حتى المقدمات من تقبيل، وقيل بل حتى الملامسة ولو باليد.
والصحيح أنها من كنايات الجماع كما أسلفنا في السابق، والنهي عن الجماع في ملازمة المسجد لأنه لا يتناسب والحال أولا، ثم لهيبة المكان وجلالته.
والإقبال إلى المسجد في رمضان له جوانبه الجميلة في المراجعة الذاتية والمجتمعية، أمّا من حيث المراجعة الذاتية فالإنسان بحاجة إلى فرصة ولو في العام مرة واحدة يراجع فيها ذاته، ويقلب أوراقه، ويجدد علاقته مع الله أولا، ثم مع نفسه والناس من حوله، ورمضان فرصة كبيرة، والمسجد مكان مناسب للتفرغ ومراجعة الذات.
أما المراجعة المجتمعية فتتمثل في العلاقات الأسرية والاجتماعية في القرية أو المجتمع الواحد، فطبيعة الحياة تورث الأحقاد والكراهية، ويظهر بذلك الحسد والعجب والكبرياء، وينتج عنه الظلم والقطيعة، بداية من علاقة الفرد بوالديه وأرحامه، إلى زوجه وأولاده، ثم جيرانه وأصدقائه وأهل مجتمعه ومن يعمل معه.
كلّ هذا يحتاج من الإنسان أن يراجع أوراقه من حيث الفرد بإصلاح العلاقة، وتصفية المياه لتجري بشكل طبيعي بلا أكدار تعوقها.
ومن حيث المجموع لينطلق المجتمع إلى إصلاح ذات البين، وليكون في جوهر مجتمع نصح وإصلاح، لا مجتمع فرقة وشقاق وبغضاء، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[5].
ولا شك أن رمضان والاعتكاف في المساجد بملازمتها فرصة في مراجعة الذات ومراجعة أوراق المجتمع، ويترتب على هذا أيضا مراجعة الجانب الطبقي بين فئات المجتمع، لتتشكل الصورة المجتمعية الجميلة، ولذلك سن الرسول عليه الصلاة والسلام صدقة الفطر، ولما يروى عنه عليه الصلاة والسلام من سخاء يده وإرسالها في رمضان، تحقيقا للجانب المقاصدي والحضاري والمجتمعي من آيات الصيام.
[1] للمزيد راجع معاجم اللغة ومنها المعجم الوسيط مدة عكف.
[2] البقرة/ 125.
[3] الحج/ 25.
[4] النور/ 36 – 37.
[5] الحجرات/ 10.