بدر بن سالم العبري
هذا الجزء من الآية مرتبط بالذي قبله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ.
واستخدم القرآن هنا لفظة الليل، ولكن السؤال متى يبدأ الليل، وهنا حدث خلاف بين المؤولة والفقهاء، أشهرها اليوم ثلاثة أقوال، قول يرى أنّ الليل يبدأ بمجرد غروب الشمس ورؤيتك له ظاهريا، ولو قال الفلك إن الشمس لم تغب بعد، كأن كنت في منطقة جبلية، ورأيت الشمس قد نزلت وغابت، هنا تفطر ولا تنتظر الأذان المبني على الفلك، لأنّ الأذان وسيلة من الوسائل لبيان الغروب، وهؤلاء أخذوا بظاهر الرواية: إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم .
والمعمول به عند المذاهب خلافا للإمامية أنّ وقت الليل يبدأ من غروب قرص من الشمس، ويكون إعلامه بالأذان، واليوم يعلم بالتوقيت الفلكي، أما الإمامية فيرون بغياب النجم، أو بظهور الشفق الأحمر.
والخلاف سببه أمران، الأمر الأول في بيان النص القرآني، والثاني في الروايات المصاحبة لمفهوم النص القرآني.
أمّا بيان النص القرآني من هذه قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا[1].
والغسق لغة ظلمة الليل، وعليه اختلف في بدايته وتأويله، والأكثر عند أهل التأويل الغسق بدو الليل، وقيل: وقت صلاة المغرب، وقيل: غروب الشمس، وقيل: ظلمة الليل، وقيل: صلاة العصر، وقيل غير ذلك.
فمن فهم وقت الغروب يبدأ من بداية نزول الشمس وغياب قرصها، ولو كان الضوء منعكسا في الأفق؛ اعتبر الليل يبدأ من نزول الشمس، وعليه بمجرد نزولها أباح الإفطار، ووجبت صلاة المغرب.
واستندوا إلى هذا بروايات أخرى كشاهد ومنها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُصلِّي المغرب إذا غربت الشَّمس وتوارت بالحِجاب، أي إذا غابت عن النظر.
وهذا الفريق الأكثر من الأمة خلافا للشيعة الجعفرية، وجرى عليه العمل، فيكون الغسق بهذا المراد به الظلمة، وتبدأ الظلمة من نزول الشمس وحتى طلوع الفجر، وعليه بنزول الشمس توجب صلاة المغرب، وبغياب الشفق الأحمر تبدأ صلاة العشاء، أو تجب الصلاتان بمجرد الغروب عند من يرى اشتراك الوقتين، وهو الأصل الذي أراه أنّ بغروب الشمس تجب الصلاتان، إلا أنه يستحب تأخير العشاء وتعجيل المغرب، ويصح الجمع بينهما، ولا يصح ما يسمى بالجمع الصوري، وهو يصعب تحققه، ونخلص بهذا أن الغسق أريد به الظلمة، وإطلاقه في الآية من باب الوصف الغالب لليل وهو الظلمة، إلا أنّ له بداية، والبداية تحمل عليه ولو الظلمة خفيفة، كما أنّ الفجر يحمل على النهار مع أنّ الظلمة هي الغالب.
وهناك فريق آخر اعتبر الليل بظهور الظلمة، وهذا يتحقق بظهور النجم أو غياب الشفق الأحمر، واستدوا بالروايات نفسها مع إسقاط فهمهم عليها مع مرويات أخرى.
وهنا لسنا في مجال إيراد أدلة كل فريق بقدر ما يهمنا سعة التفكير الذي كان عليه الأوائل، وهذه السعة لا تقضي على الأخوة المسلمة؛ بل التعددية الأصل تزيد الجمال الفقهي بين المؤمنين، وهي تثري المجتمع، وتجعله أكثر تكاملا، وهذا ما يعلمنا ويرشدنا إليه الصيام، فأعطانا المنطلقات الكلية في الصيام، وما عداه من جزئيات وتطبيقات أعطاها للتفكير البشري، ثم أمرهم بالاهتمام بالمقاصد والقيم العليا ليتحول الطقس إلى أثر مجتمعي وحضاري.
والآية ابتدأت بقوله تعالى: ثم أتموا، والإتمام إكمال الشيء على الوجه الأكمل مع الإتقان، وهذا تربية حضارية عميقة في إتمام العمل وإتقانه، ليسقط ذلك على واقع الناس وحياتهم، حيث يجمع العمل بين عنصرين مهمين: الإتمام والإتقان، والإتمام هنا قرين الإكمال في الآية: ولتكملوا العدة.
فأي عمل يعمله الإنسان، وأي عقد له، ثم أي موعد يعده، ينبغي أن يفي في تمامه وإتقانه قدر جهده، وهذا تربية حضارية عميقة ينبغي أن يكون صورة حية للمجتمع المسلم.
والجزء هذا مع الجزء السابق من الآية ربط بداية الصيام بالنهار إلى نهاية الصيام بالليل، وهذا جزء متحقق، وعليه يستثنى من هذا فريقان، الأول أن الليل والنهار ينتصف في العام، وهذا بالتالي الصيام على الصورة المعتادة يصعب تحققه عندهم، فلا معنى لقول البعض كما أسلفنا أن يقدر اليوم بساعات، أو يقاس بأقرب دولة معتدلة، أو يقاس على توقيت ام القرى، فهؤلاء أعطاهم الله تعالى البديل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، كما أنّ الصيام لا يقتصر على ذاتية الإمساك بقدر ما يكون في ذاته تفعيل للخيرات، ومراجعة للذات.
أما الفريق الثاني فهم الذين يطول عندهم النهار لساعات طويلة يصعب فيها الصيام، فهؤلاء كالفريق الأول تماما، وعليهم الفدية في نظري ولا يطالبون بالقضاء، والله أعلم، يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
[1] الإسراء/ 78.