بدر بن سالم العبري
بعدما أشار القرآن الكريم إلى حرمة الرّفث في نهار رمضان، تطرق إلى بيان حقيقة العلاقة بين الزّوج والزّوجة، وأنّ هذه العلاقة أكبر من أن تحصر في العلاقة الجنسية المحدودة، فالرّجل في حقيقته لباس للمرأة، والمرأة لباس للرجل، واللباس كما أنّه يستر الجسد ويزينه؛ فكذلك هنا كلّ الزوجين ستر وزينة للآخر.
وكطبيعة القرآن لا يستخدم الألفاظ المباشرة في قضية العلاقات المباشرة، وإنّما يستخدم الكنايات، وقد أسلفا في بيان كلمة الرفث في اليوم السابق.
ومن ذلك مثلا قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[1]، والمحيض له دلالتان الدم ومكان الحيض، ولم يذكر مكان الجماع صراحة.
وقوله تعالى: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[2]، والحرث هو مكان الزراعة، والمراد هنا مكان زراعة الولد، فبين سبحانه جواز إتيان الحرث من أيّ جهة، والعبرة بإتيان مكان الحرث.
وقوله تعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ، والمس في الأصل الملامسة، والمراد هنا الجماع، ومثل هذا في سورة المائدة: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ، ومنه قول مريم: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا .
واستخدام ألفاظ الكناية تربية للأمة في كتاباتها وحديثها ومروياتها وخطابها وشعرها وأدبها عموما، ليسقط هذا على واقع الأمة ليس فحسب في كتابتها وأحاديثها، وفي سلوكها وتصرفاتها.
والقرآن بذاته يؤكد على أنّ شهوة الميلان إلى الآخر أو الجنس شهوة طبيعية في الإنسان كشهوة حب المال والأولاد، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ[3].
فهو يعتبر الحالة الجنسية حالة طبيعية إلا أنّه في الوقت نفسه يقرر العديد من الأدبيات المنظمة والمربية للعلاقات الإنسانية والمجتمعية، والتي ينبغي أن تسقط كسلوك في حياة الناس قولا وفعلا.
وإذا جئنا مثلا إلى التوراة أو العهد القديم سنجد سفر الإنشاد والذي يخجل المقدسون للعهدين من تدريسه أو قراءته على الملأ، مما يدل أنّه من صنع الأحبار وليس من عند الله، بل اعتبر أحدهم أنّ العهد القديم بسفر الإنشاد أكبر كتاب غرائزي يثير الشهوات!!!
وعليه سقط هذا في الحضارة الغربية وفي أفلامها وكتاباتها، وللأسف أن نجد في الشرق حب التقليد في هذا، فنحن مع الإبداع الفني والكتابي، ولكن في الوقت نفسه لابد أن تكون الأدبيات القرآنية حاضرة أيضا!!!
وفي هذا الجزء استخدم القرآن لفظة اللباس كما استخدم في الجزء السابق لفظة الرفث، وسيأتي أيضا لفظ المباشرة، ثم أنّه أعطى للعقل البشري حرية التفكير والبحث في بيان ماهية اللباس، وعليه ستتعدد الآراء في تفسيره وبيان ماهيته!!!
فقيل بمعنى اللباس الحسي فيجمعهما لباس واحد عند اللقاء، كما يجمعهم جسد واحد، وقيل بمعنى الفراش الواحد الذي يسترهم عند النوم، وقيل بمعنى السكن النفسي أو المعنوي، وقيل بمعنى ستر كل واحد منهم للآخر، وقيل غير ذلك كثير.
ولكن عندما نتأمل الآية الكريمة نجد جاء ذكر اللباس بعد ذكر الرفث، وفيه إشارة أنّ المرأة سكن للزوج، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[4]، وكما أنّ الليل سكن للإنسان: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[5].
وهذا السكن لا يقتصر عند الجانب الجنسي، وعليه كانت الالتفاتة إلى المرأة لكونها ليست مجرد متعة بل هي لباس للرجل، تمن عليه بحنانها وسكنها، وكذلك الرجل أيضا سكن بالنسبة للمرأة.
وهنا جاء التأكيد في آيات الصيام بعد ذكر الرفث: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، وذلك في آيات الصيام، لتكون تربية حضارية في الحفاظ على هذا اللباس والعناية به، ولأنّ رمضان تربية للجميع، ومدرسة للكل، فينبغي النظر من جديد في اللباس، وأن لا يقتصر عند المتعة الجسدية فحسب!!!
[1] البقرة/ 222.
[2] البقرة/ 223.
[3] آل عمران/ 14.
[4] الروم/ 21.
[5] غافر/ 61.