الكاتب: حسن بن عبد الله العجمي
يعد العنف الممارس في داخل الأسرة أحد الظواهر الاجتماعية التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات الإنسانية، فكلّها تعاني من هذه الظاهرة، وممن يكون ضحيّة العنف الأسري الوالدان، وذلك بممارسة الأبناء العنف ضدّهم، ويعرف بعنف الفروع ضدّ الأصول، وطبيعة العنف الذي يمارسه الأبناء ضد والديهم يتمثل في الاعتداء الجسدي والاعتداء النّفسي المعنوي، والأول من قبيل القتل أو الضرب بواسطة القوّة الجسديّة أو الاستعانة بالأشياء كالعصى والرمي بالحجارة والأطباق والأشياء المؤثرة في الجسد، أو الركل، أو العض، أو الحرق بكي الجسد بالنّار وغير ذلك، والثاني مثل الشتم والتلفّظ بالألفاظ القبيحة البذيئة أو التخويف، أو الإهمال وعدم المبالاة، أو الحرمان من الحاجات الضروريّة.
إنّ الشريعة الإسلاميّة فرضت على الأبناء حقوقًا لوالديهم، فأمر الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين والإحسان إليهما، ونهى عن كل ما يخالف برّهما والإحسان إليهما أو يلحق الأذيّة بهما، وعدّ فعل شيء من ذلك عقوقًا لهما يلحق فاعله الإثم ويعرّضه إلى العذاب والعقاب الأليم.
وكلّما كانت الإساءة الموجهة من الأبناء إلى الوالدين أكبر وأكثر ضرر وأذيّة لهما كلّما كان إثمها أكبر وأعظم، وما نسمعه أو نقرأه من استخدام بعض الأبناء للعنف مع الوالدين أو أحدهما كالقتل أو الضرب أو التعذيب يعد من أسوء ضروب العقوق، وهو فعل شنيع وذنب عظيم، وتعدٍّ صارخ على الوالدين وتنكر منهم لجميل من أحسن إليهم صغارًا وتحمّل المشاق في سبيل تربيتهم ورعايتهم حتى صاروا كبارًا، وينبئ عن مدى عظم الانحراف الديني والخلقي الذي أصيب به هؤلاء الأبناء، وانعدام الرّحمة من نفوسهم وتجرّدها من أي معنى من معاني الإنسانية، ضاربين بتعاليم الدين الحنيف الآمر بوجوب الإحسان إلى الوالدين ولزوم برّهما عرض الجدار .
قال الله تعالى في كتابه المجيد: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”(1). فنهر الوالدين والتأفف والتضجر منهما أمر منهي عنه فضلًا عن الاعتداء عليهما بشيء أكبر وأعظم من ذلك كالقتل أو الضّرب ونحو ذلك.
لكن مما يؤسف له أنّنا نسمع أو نقرأ بين الفينة والأخرى من خلال وسائل الإعلام المختلفة – ومنها وسائل إعلام عربيّة وإسلاميّة – عن صور من العنف الممارس من قبل الأبناء ضد والديهم، صور مأساويّة يندى لها الجبين، فمن شاب قام بتقييد والده وربطه في مقعد السيارة، ومن ثم أشعل النّار فيه وأحرقه حتّى الموت بعد أنْ سكب فوقه شيئًا من الكيروسين، والسبب مجرّد خلاف بسيط نشأ بينهما على مبلغ من المال، وآخر يقوم بتقييد والدته المسنّة بحبل في يديها وقدميها، ومن ثم ينهال عليها ضربًا وركلًا حتّى أو شكت على مفارقة الحياة لولا تدخل الجيران، والسبب أيضًا خلاف ماديٌّ، وثالث طعن والده بسكين لأنّه – كما يدّعي – كان يستفزّه ويقلل من أهمّيته أمام النّاس بالسبّ والشتم وأنّه نعته بالفاشل، ورابع ضرب والده بزجاجة خمر وشجّ رأسه وأدمى وجهه، لأنّه منعه من دخول البيت بعد أنْ جاء إليه في وقت متأخر من الليل وهو ثمل ويحمل في يده زجاجة خمر. وكثيرون هم الآباء والأمهات الذين يعيشون حالة من الحزن والأسى، قد تأذّت نفوسهم وتفطّرت قلوبهم مما يلحقه بهم أبناؤهم من الأذى وسوء المعاملة.
إنّ هؤلاء الأبناء نتاج سيء لتربية سيئة فاسدة، وغالبًا ما يكونون ممن تعرّض للعنف في طفولته، فقد دلّت الدّراسات على أنّ الأشخاص الذين يرتكب العنف ضدّهم في مراحل حياتهم المبكرة يكونون أكثر استعدادًا لارتكاب العنف في كبرهم، ولا يفرّقون في ذلك بين أفراد أسرهم أو غيرهم، فقد يمارس الفرد منهم العنف ضد أولاده أو زوجته أو والديه أو غيرهم.
إنّ سوء التربية التي تنتج ضعفًا في الوازع الديني عند الفرد، والمعاملة القاسية العنيفة التي يتلقاها في صغره، وما ينتج عن ذلك من قساوة القلب وجفاف النفس من العطف والحب والحنان والرأفة والرّحمة، كل ذلك غالبًا مما يكون السبب وراء الجنوح ووصول الفرد إلى مراحل متقدمة من الانحراف، بحيث يقدم على ممارسة العنف مع والديه وإلى درجة أنْ يرتكب ضدهما جريمة القتل أو الضرب أو يرمي بهما في دار العجزة والمسنين أو يتركهما يتكففان النّاس ويمدان الأيدي لهذا أو ذاك للحصول على احتياجاتهما الضّرورية من مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك، أو ينهرهما ويسخر منهما ويتلفظ عليهما بالألفاظ السيئة والكلمات والعبارات القبيحة.
إنّ مسؤوليّة التربية الملقاة على عاتق الوالدين لا تقتصر على توفير المسكن والملبس والمأكل والمشرب والعلاج وغيرها من الأمور المادّية، وإنّما تشمل الاهتمام بالجانب المعنوي النفسي، من بيان وتوضيح العقيدة الصحيحة لهم، وتعليمهم الواجبات والفرائض الإلهية، وحثّهم على أدائها والالتزام بها، وغرس الأخلاق الفاضلة الحميدة والقيم النبيلة والمبادئ الحسنة في نفوسهم، وأمرهم بالتخلّق بها وتشجيعهم على التعامل مع الآخرين وفقها، وتحذيرهم من الأخلاق الرّذيلة وسلوك السلوكيّات المنحرفة الفاسدة. ثم لكي تكلل جهود الوالدين في تربية الأبناء بالنّجاح لا بدَّ لهما من إبعادهم عن كل ما من شأنّه أن يؤثر في سلوكهم سلبًا، ويفشل ما يبذلانه من جهد في سبيل تربيتهم، بأنْ لا تكون تربيتهما لهم تتخذ طابع العنف لما ذكرناه سابقًا من أنّ ذلك يوجد استعدادًا عند الفرد لممارسة العنف في قادم حياته، كما وعليهما إبعادهم عن مرافقة ومصاحبة قرناء السوء لما لهؤلاء من تأثير على رفيقهم وصاحبهم، وكما يقال أنّ “الصاحب ساحب”، ويراد بهذا القول أنّ الصاحب يؤثر بأخلاقه في صاحبه فيكسبه شيئًا منها، فإنْ كان صالحًا فعادة ما ينعكس صلاحه على صاحبه فيصلح مثله، وإنْ كان فاسدًا فينعكس فساده على صاحبه فربما يفسد مثله.
وأن يتجنّبا التفرقة بين أبنائهما لما يخلّفه ذلك في نفس المفضل عليه من حقد وكراهية لأبويه الأمر الذي قد يدفعه ذلك إلى عقوقهما وممارسة العنف ضدّهما.
وأن يراقبا البرامج التلفزيونيّة التي يعتاد الأبناء مشاهدتها، وأنْ لا يسمحا لهم بمشاهدة الأفلام والمسلسلات وغيرها من المواد التي تبث من خلال التلفزيون مما يتضمن مشاهد للعنف واستخدام القوّة المفرطة؛ وذلك لأنّ المشاهد التي تتسم بالعنف إمّا أنّها تكون بنفسها سببًا مستقلًّا يدفع الفرد إلى ممارسة العنف والقوّة في نطاق أسرته أو في دائرة مجتمعه، أو أنّها تكون داعمًا ومعزّزًا لعوامل أخرى عنده من شأنها فيما لو حصل الداعم والمعزز لها أن تدفع به إلى استخدام العنف وممارسة العدوان على الغير.
“إنّ مشاهدة برامج العنف والجريمة والاغتصاب والقتل تسهم في تكوين سلوك عدواني خاصة عند الأطفال وأنّ نسبة كبيرة من جرائم الأحداث ترجع إلى محاكاة مرتكبها لما يحدث في برامج وأفلام العنف، فمشاهدة تلك الأفلام من أهم أسباب السلوك العدواني العنيف لدى الأطفال وخاصة في سن المراهقة التي يتوحّد فيها المراهق مع بطل الفلم أو المسلسل ويتقمّص فيها شخصيّته”(2).
وحول مدى تأثير وسائل الإعلام على الأفراد في دفعهم نحو العنف “حاولت دراسة أمريكية تحت عنوان وسائل الإعلام والعنف، أنْ تدرس أسباب العنف ومظاهره المختلفة المقدمة عبر وسائل الإعلام، وكيفية منع الجريمة المترتبة على التعرض لهذا العنف على الأقل، ووصلت إلى أنّ أشكال ومظاهر العنف في التلفزيون لوحده دون باقي وسائل الإعلام، تسيطر على خريطة البرامج بنسبة تتراوح ما بين 85% إلى 90%، وهي نسبة مرتفعة جدًّا تعكس بالفعل مستوى ونسبة الجريمة في المجتمع الأمريكي، الذي خرجت منه الكثير من مؤسسات المجتمع المدني التي تنادي بالتقليل من مظاهر العنف المعروض عبر وسائل الإعلام، لما له بالغ التأثير على مستوى الفرد والمجتمع” (3).
وأنْ لا يهملا أبدًا وبتاتًا أيَّ فكر أو سلوك خاطئ يصدر من أحد أبنائهم ويتركانه دون علاج، بل عليهما أنْ يبادرا سريعًا إلى تقويمه لكي لا يتمكن من فكره، أو يتكرر فعله له مرات ومرات فيكون سلوكًا معتادًا لديه يصعب حينها تقويمه وعلاجه.
وفوق كل ذلك على الآباء والأمهات أنْ يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم بالالتزام والتقيّد بكل ما يطلبان من الأبناء الالتزام والتقيّد به، فإنّ ذلك مما له الأثر الفعّال في دفع الأبناء إلى الائتمار بأوامر الوالدين والانتهاء عن نواهيهما.
وأخيرًا أقول: لا بدّ للحد والتقليل من هكذا حالة من العنف من أنْ يوضع العلاج الناجع لذلك، وأنْ يكون هناك تكاتف بين المؤسسات التربويّة التوجيهية من الأسرة والمدرسة والكليّات والجامعات ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وسائر المؤسسات الإرشاديّة كالمساجد وغيرها، بحيث يقوم الجميع بالتركيز على هذه الحالة والتوعية بأضرارها وآثارها السلبيّة الخطيرة على الفرد والمجتمع، والتعرّض لمسبباتها والتحذير منها، وغرس الوازع الديني ومبادئ التسامح والقيم الأخلاقية في النّفوس لا سيما الجيل الشاب، وبيان ما على الفرد من الحقوق والواجبات تجاه والديه، وعلى القضاء أن يكون صارمًا في تطبيق الأحكام الشرعيّة أو القانونيّة على الأبناء الذين يمارسون العنف ضد والديهم وأنْ تطبّق عليهم أقسى وأشد العقوبات المقررة.
المصادر:
(1) الإسراء: 23.
(2) الشباب التجلّيات وآفاق المستقبل 2/245.
(3) مقال للدكتور منير طبي، بعنوان “وسائل الإعلام والعنف الأسري إشكاليّة الواقع والدّور” نشر في شبكة النبأ المعلوماتية، بتاريخ 15/3/2017م.