بدر بن سالم العبري
نبدأ الحديث – بإذن الله تعالى – في هذ اليوم مع الآية الأخيرة من آيات الصيام من سورة البقرة آية 187، ومع الجزء الأول وهو قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}.
تشير الآية الكريمة إلى جواز الرفث في ليلة الصيام، والرَّفَثُ كلمةٌ جامعةٌ لما يريد الرجل من المرأة في سبيل الاستمتاع بها من غير كناية، وقيل الرُّفَثُ الفحش من القول، وقد رَفَثَ يرفث رَفَثاً مثل طلب يطلب طلبا، وأرْفَثَ أيضا، وقيل الرفث هو التصريح بكلام قبيح وهو كل ما لا يحسن التصريح به من قول أو عمل.
وعلى هذا اختلف في تحديد الرفث، فعند ابن عباس ت 68هـ الرّفث كناية عن الجماع، وقال الزجاج ت 311هـ: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وعلى القول الأول يظهر جواز ما دون الجماع كالتقبيل مثلا، وعلى القول الثاني يعمه الرفث.
والظّاهر أنّ المراد بالرفث هنا الجماع لأنّه الأصل في الحديث، ولا شك أن المحرمات الرئيسة الثلاثة في نهار رمضان: الأكل والشرب والجماع، والجماع يدخل فيه عرضا ما يؤدي إليه ويمنع احتياطا خشية الوقوع في المحظور، أما الجماع ذاته فيمنع وجوبا في نهار الصيام.
والتعريض عن الحالة الجنسية بكلمة أخرى من باب الكنايات والمعاريض هو منهج قرآني رفيع، ومعلم حضاري كبير؛ لأنّ الأخلاق والقيم مبادئ سلوكية رفيعة جاءت الشرائع السماوية بغرسها، لذا حذرت من الفواحش وما يؤدي إليها: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[1].
فالقرآن الكريم يربينا حضاريا على الكناية كما يربينا على الانطلاقة في الوجود، فالغرب أحسنوا مع الثانية، وسقطوا في الأولى، ونحن علينا أن نحسن في الاثنيين، وهذه هي الحضارة الحقة، الجامعة بين علو الروح وعلو العقل والجسد.
وقوله تعالى: أحلّ لكم، قيل في الآية نسخ، أي نسخت الآية العادة الموجودة من الصيام، وهي منع إتيان النساء أثناء الصيام ليلا أو نهارا، وهنا المفسرون لم يشيروا إلى سبب المنع، هل بسبب نص سابق من النصوص المرفوعة تلاوة وحكما، أو بسبب شرائع من قبلنا، أو بسبب العادة وتصور الناس منع ذلك، كما في حالة التمتع في الحج.
والظاهر ليس في الآية نسخ، وإنّما في الآية تصحيح، لأنّ رمضان لم يكن وليد هذه الأمة: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وهو موجود عند العرب ويصومونه، إلا أنه لتطور العادات، وتشديد الناس على أنفسهم، شددوا على أنفسهم في أمر لم يكن فيه إلزام، كما فعل ذلك الأحبار عند النصارى في رهبانية ابتدعوها ولم يرعوها حقها.
ومن هذه الروايات التي تصور الحالة تلك رواية مفادها أنّ عمر – رضي الله تعالى عنه – ت 23هـ رجع من عند النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد سمر عنده ليلة، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها، وصنع كعب بن مالك ت 50هـ مثله، فغدا عمر على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أعتذر إلى الله وإليك، فإنّ نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر، فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن.
ونجد الرواية تقيد ذلك بالنوم، وهو معهود عند أهل الكتاب من اليهود ظاهرا، فلعله مما كان متعارفا بينهم، ولا يبعد التشديد في ذات الجماع طيلة الصيام.
فحاصل ما سبق لم يكن في الآية نسخ ولا غيره؛ وإنّما في الآية تصحيح ورجوع إلى التشريع الإلهي الأول بعدما تراكمت عليه تصورات البشر وتشريعاتهم.
ونجد أنّ الرّفث محمول على النساء: نسائكم، فلم يقل: الرفث إلى النساء، وإنما عرفه بالإضافة إلى الضمير المتصل (كم)، والإضافة تخصيص للمخاطب، وفي الوقت نفسه تلطيف، لأنّ الكلام متعلق بالأزواج، والأزواج من ذات الرجال، فهنّ لباسهم وشقيقاتهم كما سيأتي في اليوم التالي.
وفي هذا تجسيد حضاري أنّ الشريعة في تشريعاتها متناسبة مع التكوين البشري {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وإنما منع عن الطعام والشراب – كما أسلفنا – دربة لهذا الإنسان لكي يتعود على الطاعة وتحقيق التقوى.
فالمرء بتكوينه الذاتي لا يستطيع الإمساك كليا عن الجماع، وعليه أبيح في الليل، وقد جاءت الشرائع للتنظيم لا للإحجام والكبت، فهي وسط، وإذا كان الإمساك في شهر الصيام عن الجماع الحلال، فهو دربة في غير رمضان على الإمساك مع الجماع والرفث المحرم، وإذا طاع الصائم ربه في هذا حالة الصيام، فليكن صائما عن الحرام طيلة حياته الفانية.
وأمر الإمساك عن الرفث في نهار رمضان أمر تنظيمي لتكون الأمة منظمة حضاريا خاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين، ولهذا كانت رسالات السماء.
[1] النور/ 19 – 20.