بدر بن سالم العبري
تحدثنا في الحلقة الأولى عن الإيمان، وقلنا إنّ فالإيمان بالله في أساسه تصديق بالله وبأمره، وعليه الكفر بأوامر الله معناه مؤشر خلل في الإيمان بالله ذاته، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}[1]، فالله ينفي عن المؤمنين والمؤمنات صفة عدم الطاعة لله وما أمر الله به رسولَه أن يبلغه من رسالات الله سبحانه، وإلا كان هذا الإيمان شكليا لا قيمة له؛ لأنه يكون مقابلا للنفاق الذي يساوي الإيمان الشكلي المتبوع بالمخالفة والعصيان، فهنا تربية من الله تعالى للمجتمع المؤمن، لتظهر فيه صفة الإيمان الموافقة لصفة الصدق، وتتضاءل فيه صفة النفاق والكذب.
وفي هذا الجزء يواصل الله سبحانه وتعالى الإشارة إلى الصفة الثانية من قبل العباد بعدما أشار إلى الاستجابة، وقد تحدثنا عنها في الحلقة الماضية، ليتحقق بذلك القرب والاستجابة الإلهية فقال: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي}[2].
والإيمان بالشيء له ثماره، فإيمانك بأهمية القانون استقرار للمجتمع، والجميع يجني ثماره.
وعليه نجد الله سبحانه وتعالى في القرآن يثبت أنّ الإيمان بالجزاء الغيبي بقضايا حسية حدثت أو ستحدث، ومن هذا رحلة الإنسان مع جسمه وتكوينه.
فمثلا ساد العالم ألف من الزمان نظرية سقراط، والتي تخلص أن الإنسان مخلوق من دم المرأة، وقبل عهد النهضة بقليل اعتقد أطباء أوربا أنّ الإنسان يخلق دفعة واحدة من مني الرجل؟
وعندما تطور العلم، وتقدمت وسائل المعرفة، أدرك العالم أنّ الإنسان أصله من تراب وماء، ثم تطور نتيجة تلاقح الحيوان المنوي ببويضة المرأة فكانت خلية واحدة فنمت حتى أصبحت أكثر من مائة تريليون خلية، فتنقسم إلى خلايا منوعة منها ما يشكل الجلد، وأخرى للعظام، وأخرى للدماغ، وخلايا للعين وخلايا للقلب، فمَن الذي يخبر هذه الخلايا بعملها وبمهمتها وبهذا التطور؟ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[3].
وبعدها تتحول الخلايا إلى علقة تعلق ببطانة الرحم لتتغذى منه، لتنمو إلى مضغة لحم وكأنّ أسنان إنسان قامت بمضغها، ثم تتخلق فتنمو العظام فيها، ثم تكسى باللحم لتظهر وكأنها خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.
ونجد علماء اليوم يؤكدون بأن جميع العناصر التي يتركب منها جسم الإنسان موجودة في التراب، وهذا ما حدثنا عنه القرآن قبل قرون عديدة، {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}[4].
ويؤكدون أيضا أنّ أهم عنصر في الإنسان والكائنات الحية الماء، حيث توصل العلماء المعاصرون أنّ نسبة الماء في تركيب المخلوقات الحية تصل لأكثر من سبعين بالمائة، وهذا ما قاله القرآن قبل دهور مديدة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[5]، {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}[6].
ثمّ أشار القرآن أنّ الإنسان فهو خليط أمشاج بين ماء الرجل وبويضة المرأة، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[7].
وهكذا بالنسبة لأطوار خلق الإنسان طورا من بعد طور، والعالم عما قريب كان يعتقد أن الإنسان يخلق دفعة واحدة، ثم تبين خطأ استنتاجه في القرن التاسع عشر، بينما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[8].
فهذه ليست مجرد صدف، ولكنه الإيمان: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[9].
فإذا أدرك العالم اليوم حقائق ما حكاه القرآن عن الكون الفلك، والنجوم والمجرات، والسحاب وتكون المطر… فما هذه إلا علامات لعالم الغيب… {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[10].
[1] الأحزاب/ 36.
[2] البقرة/ 186.
[3] الفرقان/ 2.
[4] الرّوم/ 20.
[5] الأنبياء/ 30.
[6] النّور/ 45.
[7] الإنسان/ 1 – 2.
[8] المؤمنون/ 12 – 14.
[9] فصلت/ 53.
[10] يس/ 77 – 83.