بدر بن سالم العبري
نواصل الحديث عن الآية 186 من سورة البقرة، وتوقفنا عند الجزء: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}، وهذا بعدما أشار الله تعالى إلى القرب والإجابة الإلهية من قبله سبحانه، هنا يبدأ الكلام عن المخلوق فبدأ بقضية الاستجابة.
والاستجابة هي الإقبال إلى الله سبحانه وتعالى، وهنا حث من قبله سبحانه للمخلوقين أن يستجيبوا لهذه الدعوة قبل فوات الأوان، وأعظم ما ذكر في الإجابة ما حكاه الله تعالى على لسان الجن عندما استمع نفر منهم القرآن: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[1].
والإجابة لله هي الإجابة لكتابه اهتماما وتدبرا وتطبيقا، وتصديقا وهيمنة على الذات والفكر والواقع، والانطلاقة منه، فهو يشكل منهجا حضاريا شاملا بكلياته لهذه الأمة.
القرآن يدعو إلى قيم عليا، فهو يدعو إلى التوحيد والعبادة الشاملة، والعدل ورفع الظلم والقسط والتواضع والإحسان، ويحذر من الفواحش والبغي وما يؤدي إلى ضياع الإنسان ودينه وعرضه وماله ونسله وعقله، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[2]، ويقول أيضا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[3].
هذه الإجابة القرآنية هي إجابة حضارية، فالله سبحانه وتعالى لا يريدنا أن نستجيب له في المساجد بالرهبنة؛ بل يريد منا أن نستجيب له سبحانه وتعالى في الحكم بالعدل وعدم الظلم، والسوق بعدم الغش والتطفيف في الميزان والاحتكار واستغلال حاجة الإنسان، والسعي في تقوية الاقتصاد من الداخل، والاعتماد على الذات.
وفي العلم ببناء العقل الذي يسيح في الآفاق بحثا وتنظيرا وتجارب ومعرفة، ويكتشف سنن الله تعالى ليسخرها في خدمة الإنسان والإنسانية.
وفي التربية بغرس القيم والمبادئ الإنسانية، واحترام الإنسان ومكانته الرفيعة في الحياة.
وفي الاجتماع بالإحسان إلى جميع شرائح المجتمع، وعلى رأسهم الوالدان والأقارب والجيران والصاحب في الحضر والسفر وابن السبيل والمحتاج والمسكين.
هذه الإجابة الحضارية المتجسدة في القرآن تحقق معنى القرب الإلهي لله سبحانه وتعالى، وتكون أقرب إلى إجابة الدعاء.
أما أن تقتصر الأمة على الصريخ والبكاء، ولا تأخذ بأسباب التقدم والحضارة، فالاستجابة لله استجابة حضارية ليست مقتصرة على العبادات المحضة والأذكار والشكل الخارجي، وإنما هي استجابة للإصلاح الشامل، بداية من الذات فالأسرة فالمجتمع فالأمة.
وهذا التغيير بطبيعة الحال يقوم به الجميع كمجتمع كل حسب قدرته ومنصبه، وكل بماله ونفسه وجهده، لعل الأمة تستيقظ من سباتها، وتعود إلى رشدها.
فلا يصح أن تحصر الاستجابة فقط في جوانب معينة، فالاستجابة استجابة قرآنية، والقرآن فيه أمر الله سبحانه، وبهذا كما أسلفت يكون القرب والإجابة الإلهية.
ونلحظ في هذا الجزء أتى بالفعل المضارع المقرون بلام الأمر، وهي إحدى الطرق الأربع لصيغ الأمر مع فعل الأمر والمصدر النائب عن فعل الأمر واسم فعل الأمر.
فمع أمره سبحانه وتعالى هنا بالاستجابة، إلا أنه جل جلاله جعلها مستمرة لتكون تصحيحية دائمة، وحضارية شاملة.
ثمّ الاستجابة لله تعالى (لي) وهو قمة التخصيص، ليكون النظر إلى الله، لا إلى المخلوقين والمال والمنصب والذات، وعليه الاستجابة لله تعالى مقدمة على الاستجابة لأهواء الذات، وأنانية الشعوب، واستبداد الحكومات، فهذه لا قيمة لها أمام الاستجابة لله سبحانه وتعالى.
[1] الأحقاف/ 30 – 32.
[2] النساء/ 58.
[3] النحل/ 90.