بدر بن سالم العبري
تحدّثنا في اليوم الماضي في قوله سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}[1]، وبيّنا المراد بالعدة والإكمال، واليوم نتطرق – بعون الله تعالى – في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}[2]، وجاء هذا الجزء بعد الأمر بإكمال العدة.
وعلى العموم ذكر المأولون قولين في تأويل الآية كما عند الطبري ت 310هـ، ويمكن إضافة رأي آخر إليها لتصير ثلاثة أقوال.
أما القول الأول فيتمثل في هداية الله للمؤمنين بصيام الشهر كاملا كما أراده الله تعالى، حيث هداهم إلى رمضان حسب الحنيفية السمحة، بعدما حدث فيه تحريف عند الملل والأمم الأخرى، فناسب هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[3]، وقد أسهبنا الحديث حول هذه الآية في الأيام الأولى.
والقول الثاني في عيد الفطر، أي لتكبروا الله في عيدكم بعد ما هداكم ووفقكم في إتمام الصيام، وناسب هذا أنه جاء بعد قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}[4]، ولعل هذا الرأي الأشهر عند المفسرين والعامة، فعن سفيان الثوري ت 161هـ كان يقول: “ولتكبِّروا الله على ما هداكم”، قال: بلغنا أنه التكبير يوم الفطر، وعن ابن المبارك ت 181هـ، عن داود بن قيس ت ؟، قال: سمعت زيد بن أسلم ت 136هـ يقول: “ولتكبروا الله على ما هداكم”، قال: إذا رأى الهلال، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره.
وأما القول الثالث فيمكن إجماله في الهداية من الضلالة إلى الإيمان، ومن الغواية إلى الاستقامة، فهناك من يصوم رمضان ولا يبالي بحدوده، وهناك من ينتهك حرمته، وهناك من يعظّمه لذاته، وآخرون في النهار تصوم جوارحهم عن الطعام والشراب والجماع، وفي الليل تصوم عن الحلال وحرمات الله، وتفطر على المحارم كالغيبة والفجور وغيرها، وهذا القول ناسب أيضا قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}[5]، من حيث الإكمال وإتمام الشيء كما يريد سبحانه حسب ما أسلفنا في سابقا، وعليه هذا القول يذكر عرضا عند المستأنسين بالآية خاصة من المعاصرين.
والتكبير في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} من كبّر، وكبّر من التكبير، والتْكبِيرُ التعظيم كما في مختار الصحاح للرازي ت بعد 666هـ، وعليه: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي لتعظموا الله تعالى، ويكون هذا التعظيم على الهداية الربانية في صيام الشهر وإكماله وإتمامه.
وعليه في نظري الهداية إذا ربطت بالتكبير فيدخل فيها جميع الأقوال السابقة، وعليه تحمل الآية وجهين الأول معنوي، والثاني حسي، ويتجسّد هذا مثلا من خلال قوله تعالى في آيات الحج {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[6].
فالمراد بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} الهداية العامة والخاصة، أما العامة فهي الهداية إلى الإسلام والإيمان كما يدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي عن الطريق المستقيم.
والهداية الخاصة إلى النسك والاختيار من بين الناس في تمثيل الحج كما شرعه الله تعالى، ويدل على هذا التوجيه الرباني في تصحيح النسك بعد التحريف الذي أحدثه البشر، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[7]؛ لأنّ فئة من الكبراء تعظم في ذاتها أن تطوف مع عامة الناس من الآفاقيين، ويسمون أنفسهم بالحمس ترفعا، فجاء التصحيح بأنّ الحج واحد بين الجميع لا فرق بين مكي وآفاقي، ولا بين قرشي وغيرهم من الناس، ولا بين عربي وأعجمي، وهكذا.
والذّكر أيضا في الآية الأصل من التّذكر، أي تذّكر الله وعدم نسيانه، والحج تجسيد حسي لهذا الأصل المعنوي، ليتجسد بعد ذلك إلى واقع معاشي وحضاري في حياة الإنسان كفرد، وفي الأمة كمجموع.
وهذا ذاته في آيات الصيام، فالهداية لها معنيان رئيسان عامّ وخاص، العامّ في الهداية الإلهية إلى الإيمان والاستسلام لله، والتوفيق في الطاعة والاستقامة له سبحانه، والخاصة في التوفيق في صيام الشهر، والهداية إلى صيامه كما يريد الله تعالى، إكمالا لعدته عددا وقنوتا واستسلاما له سبحانه.
والتكبير أيضا له معنيان كالذكر في الحج، المعني المعنوي وهو التعظيم المطلق لله سبحانه وتعالى، أي الإخلاص لله، والعمل له وحده لا لرمضان، فرمضان مخلوق زمني ضعيف مفتقر إلى الخالق سبحانه، والذي عظّمه هو الله وحده سبحانه، كالكعبة وعرفات ومزدلفة وجبلي الصفا والمروة مخلوقات مكانية ضعيفة مفتقرة إلى الله تعالى، والمرء يعظّم المعظِّم (اسم الفاعل) وهو الله وحده، لا المعظَّم (اسم مفعول) وإنما يجله لأمره سبحانه، ولولا أمر الله بذلك لما أعطيت لهذه الأزمنة والأمكنة أدنى أهمية.
والمعنى الحسي أي عندما يكمل المرء عدة رمضان ويعلن دخول شوال يصرخ المرء بالتكبير تذكيرا للذات والغير بعظمة الله تعالى، فلئن ذهب رمضان وأفل، فإن الخالق سبحانه لا يذهب ولا يأفل، فكما يشكر ربه على إكمال العدّة؛ هنا الشكر مرهون بتكبيره سبحانه وتعظيمه، لذا يفتتح الشهر الجديد بالتكبير والتعظيم له سبحانه.
وذلك لأنّه عاش دورة تدريبية للتعظيم والتكبير وها هو يفتتح ذلك في بداية الشهر من العام الجديد بعد رمضان، ليحقق المعنى الحضاري والمقاصدي في تعظيم الله والاستجابة له وحده، وتحقيق التوحيد والعبودية الخالصة له سبحانه، وعمارة الأرض صلاحا وفق حدود الله جلّ جلاله، ولهذا ناسب المقام أن يكون بصيغة الجمع، أي الكل يحقق هذا التعظيم: لِتُكَبِّرُوا، فواو الجماعة تفيد العموم، كما أنّ اللام في لتكبّروا هي ذاتها في ولتكملوا أي لام كي المضمرة، أي لكي تكبروا الله وتظهروا عظمته، كما أنّ الهداية للكل من الله بلا تفريق عَلَى مَا هَدَاكُمْ، في جو حضاري جمعي.
[1] البقرة/ 185.
[2] البقرة/ 185.
[3] البقرة/ 183.
[4] البقرة/ 185.
[5] البقرة/ 185.
[6] البقرة/ 189.
[7] البقرة/ 190.