بدر بن سالم العبري
تناولنا في اليوم الخامس قوله سبحانه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[1]، ونجد الله سبحانه وتعالى يكرر ذكر ذات الأمر: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[2]، والقارئ قد يسأل: لماذا تكرار الأمر في رخصة السفر والمرض في آيتين متتاليتين؟
سنجد المفسرين مختلفين في الإجابة عن هذا التكرار، نجمل أهم أقوالهم:
من قال بوجود النسخ في قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}[3]، حيث نسخت قوله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[4]، وبما أنّ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقعت قبل المنسوخ؛ أعاد ذكر الحكم لإزالة اللبس عن شمولية الرخصة في المنسوخ، فكان التكرار لفائدة رفع اللبس، وهذا الرأي – في نظرنا – ضعيف، لما أسلفنا بعدم وجود النسخ لأسباب ذكرناها في الأيام السابقة، ثم لإشكالية إلصاق اللبس بالقرآن، والله جعل كتابه واضحا مبينا في أجزائه ومفرداته، وعليه إذا كان المنسوخ وعلى الذين يطيقونه فلماذا كرر الله تعالى فقط الرخصة ولم يكرر تأكيد ما قبله خشية اللبس أيضا، وإن كان اللبس فيها بنسبة أقل، ولكن يبقى الأمر بعيدا في كلام موزون تنزيل من حكيم حميد.
ومن قال إنّ الأيام في قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، تعود لشيء آخر خلافا للأيام في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فالأيام في الآية الأولى بديل لصيام غير رمضان، والأيام الثّانية بديل لرمضان، على اعتبار أنّ الجزء الأول عقب قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[5]، والصيام هنا غير رمضان لرواية: أنّ صوم رمضان نسخ كل صوم.
بينما الأيام في الجزء الثاني جاء ذكره عقب قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[6] أي بعد رمضان، وهذا ليس سليما في نظري فالصيام كما أسلفنا المراد به رمضان بنص الآية: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}[7]، ورمضان ليس تشريعا جديدا، فكان موجودا، والعرب يصومونه، ولم يفرض الله تعالى غيره، وعليه اعتبار الأيام في الجزأين لتشريعين مختلفين ليس صائبا، فكلاهما عقب شريعة واحدة وهي صيام رمضان.
وإذا تأملنا في الجزأين نجد التكرار لا لذات التكرار أو رفعا للبس أو بعد شعيرتين مختلفتين؛ بل كل في موضعه المناسب، فالجزء الأول جاء بعد بيان فرضية الصيام مبينا أحكامه جاءت وفق الفطرة والتيسير من خلال التالي: [أيامه معدودة وسريعة + رخصة الفطر لمرض وسفر + رخصة الفطر عند الطاقة أي الشدة مع الاستطاعة + أفضلية الصوم على الإفطار فيما تقدم]، حيث نلحظ هنا الإشارة إلى الأحكام الميسرة والملازمة للتشريع، وعليه كان الخطاب في هذا الجزء موجها: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، حيث أتى بعبارة مِنكُم، كما في الطّاقة بلفظة: وَعَلَى الَّذِينَ، وهكذا، مما يدل هنا أنّ الحديث جاء من باب تفصيل الأحكام بعد إجمالية الفرض.
أما في الجزء الثاني فهو أقرب إلى الأحكام الكلية مع القواعد العامة، وعليه كان الأسلوب عاما: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ثم أتبعه بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[8] لتكون قاعدة عامة مطردة في غير الصيام، كالقرآن وهدايته، وإكمال الشيء وعدم بطلانه، والتكبير، وطلب الهداية، بل حتى الدخول في الصيام بالمشاهدة قاعدة في جميع الشهور، وعليه هذا الجزء أقرب إلى القاعدة من الحكم وإن تضمن حكما، لذلك لم يقل الله تعالى هنا: ومن كان منكم مريضا، وإنما قال: وَمَن كَانَ مَرِيضًا …، لتكون قاعدة عامّة، وقانونا يسري في أحكام مشابهة.
ولقد تحدّثنا في اليوم الخامس أيضا عن مفردات الآية [المرض والسفر والعدّة] فخلصنا أنّ المرض مرهون بالشدة، والسفر بالمشقة، بدلالة ما بعدها: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[9]، ولأنّ الأصل الصيام، والمرض والسفر عارض، ولا يرفع الأصل بالعارض إلا لشدة أو مشقة.
وقد أسهبنا الحديث في نوعية السفر، وهو يعتمد على العرف مسافة وتقديرا، ويتغير بتغير الآلة المركوبة.
والعدّة يراد بها عدد من أيام أُخَر بقدر التي أفطر فيها، ولا يشترط فيها التتابع أو الفصل، والأصل العموم.
وعليه هذه الآية قانون عام حيث أنّ الحكم يخف إلزامه مع السفر أو المرض، وعليه إذا كان هذا في العبادات فالقانون يسري مع الأحوال الحيوية (الحياتية)، فهذا جانب مقصدي وحضاري تسير عليه الأمم والأفراد.
ومن هناك كانت قواعد فقهية وعملية، فمنها مثلا: المشقة تجلب التّيسير، والأمر إذا ضاق اتّسع، وإذا اتّسع ضاق، ونحوها، كلّ هذا بما يتوافق مع فطرة الإنسان وصيرورته في الحياة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[10].
[1] البقرة/ 184.
[2] البقرة/ 185.
[3] البقرة/ 184.
[4] البقرة/ 184.
[5] البقرة/ 183.
[6] البقرة/ 185.
[7] البقرة/ 183.
[8] البقرة/ 185.
[9] البقرة/ 184.
[10] الروم/ 30.