أحمد بن سيف الهنائي
كل قريةٍ في عمان تمتاز بخصوصيةٍ مثيرة قابلة للتطوير السياحي، وعليه تأتي هذه الزاوية المضيئة في “رحّال” لتسلط الضوء في كل عدد على قرية عمانية وإبراز مواطن الجمال فيها.
في ولاية بهلاء بالمنطقة الداخلية، وأنت تشق الطريق العام، فإن منعطفاً يأخذك إلى اليمين قبل أن توشك على مغادرة “الداخلية” ومصافحة “الظاهرة” عبر فجاج “الواعدة” الآسرة.. طريق “الغافات” يقودك إلى القرية الحالمة، وبعد أن تغادر معالم “الجَناة” فإن شعوراً مريباً سيراودك إن كانت تلك هي زيارتك الأولى لــ “الوادي الأعلى”، إذ تنقطع بك معالم العمران والحياة لمسافةٍ تدنو من السبعة كيلو مترات، حتى تكون المفاجأة بظهور قطعةٍ خضراء آسرة، وكأن يداً سماويةٍ نزلت بها من ذرى النعيم، لتكون فردوساً للإنسان في الأرض.
تحيط الجبال بالقرية من أغلب الاتجاهات، ما يجعل المساحات الخضراء الشاسعة ترفل في تمازجٍ مدهش بين سحر الألوان وتمايز السكينة الناعمة التي تفتح الخيال للنفس لتجربةٍ نادرة، حيث لا ضجيج ولا منغصاتٍ صوتية، كلُّ ما في الأمر: حديثُ النفس مع الطبيعة البكر والإنسان، والهتافات المغردة من طيور عابرة أو مياهٍ تنساب في جداول الأرض أو تنحدر على مهلٍ من سفوح الجبال ساعة المطر.
تتحول هذه القرية إلى جزيرة في بعض الحالات النادرة أثناء هطول الأمطار الغزيرة، مما يؤدي جريان الأودية والتقائها ببعض إلى عزلها كليا لبضع ساعات. بمجرد الدخول إليها فإن أشجار “الحناء” -على امتداد ضفة الوادي- تلاقيك بترحابٍ يحملك إلى مدارج البهجة، وما أن تسبر أغوار المروج الخضراء التي تسايرك أينما يممت والتفت، حتى تعلق في أنفك روائح عطرية تظل عابقةً في مسير يومك كله، ذلك أن “المزارع” الممتدة من القمح والبرسيم وبعضاً من أشجار المانجو والبابايا “الفيفاي” تمنح الزائر المتعة المفقودة التي من النادر أن يجدها في شبه الجزيرة العربية على هذا النحو الواسع، وعلَّ ذلك عائدٌ إلى اهتمام إنسان الوادي الأعلى منذُ القِدم بالزراعة، وارتباطه بالأرض ارتباطاً يستمد منها الثبات والاستقرار والطمأنينة، إذ كانت مصدر دخله الأوحد، ما جعل الفلاحة هي خياره الأول ومحضن آماله وموارده الملأى بالعطاء، فالنخلة بالنسبة إليه كاللؤلؤ لصائد البحر وقتئذ.
تشير بعض الروايات إلى ان اسم “الوادي الأعلى” استمد “من الأودية المنسابة من أعالي جبل الكور”، وهو قمة جبلية شاهقة -ضمن سلسلة جبال الحجر- تفصل بين الظاهرة والداخلية، في حين أن منطقة “الكسفة” التي تمتلئ بالمياه بعد هطول الأمطار تعد مزاراً سياحياً مناسباً لقضاء وقتٍ ممتع، وحتى مع جفاف المياه فإن ثمة مواقع مميزةً بداخلها توفر لك الخصوصية المدهشة في الانعزال مع الطبيعة والانعتاق من روتينية الحياة الرتيبة، حيث المناجاة الحاضرة مع الذات حيناً ومع الطبيعة حيناً آخر، هنالك تدرك المعنى الحقيقي لــ “الهدوء” المطلق، حتى لكأنك تسمع رجع أنفاسك وصدى دواخلك من مشاعر متماهية مع جمال المنظر ومتعة اللحظة.
وفي طريق العودة إلى وسط القرية الناعسة، فإن متعةً أخرى ستكون بانتظارك، مع البيوت الأثرية التي هجرها أهلوها منذ أمد، حيث رائحة الماضي تفوح في أفيائها وأركانها، تلك البيوت وإن بُنيت بالطين إلا أنها تمتلك هندسةً معماريةً مميزة، ولا تخلو بعض جدرانها الداخلية من نقوشٍ فنية وزخرفةٍ في منتهى الجمال عبر تساقيف المنازل، والحال ينطبق كذلك على “حصنها” الحصين الذي أبى السقوط رغم السنين الطوال التي مرّت به؛ بل ظل فاغراً فاه كفجرٍ طلق البسمات ضاحك الربى، ولا تزال أجزاءٌ منه حيّة تحكي قصصاً من عُمر بلدةٍ جميلة، ربما يفوق تاريخ تشييد حصنها فقط نشأة دولٍ أصبحت تحتل مركزاً مؤثراً في محيطها.
أضحى جامعها القديم اليوم واحداً من أهم معالم القرية، حيث الكثير من الذكريات الجميلة التي تحيط به، وهو لصيقٌ بشجرة “الزام” التي لا يعرف أحدٌ عمرها على وجه الدقة غير أنه يعود إلى مئات السنين وربما يزيد، وأقيم الكثير من الأحداث الاجتماعية الجميلة تحتها، إذ كانت ملتقىً للكبار والصغار ينسجون تحت ظلالها الوارفة خيوطاً من ضياء، كانت مقر أنسهم وموطن أفراحهم، وعلى بعد أمتارٍ منها، كان “الصباح” محطة استراحة الجميع، وهو عبارة عن مجلسٍ مفتوح على ناصية الممر المؤدي إلى المنازل القديمة أو للخروج إلى الضفة الأخرى من البلدة، ولتلك الردهة مكانة أثيرية في قلوب كبار السن تحديداً، حيث كانت خيارهم الدافئ للتجمع وتبادل أطراف الحديث وعقد المشاورات الثنائية في مشاغل الحياة البسيطة وهمومها، “الصباح” في حقيقته نادٍ للأنس وإن كان مجرد كراسٍ صخرية إلا أن قلوب جلّاسه تفوح ريحاناً ونُوّارا.
وحسب وكالة الأنباء العمانية فإن: قرية “الوادي الأعلى” تعد من القرى الزراعية لخصوبة تربتها حيث تشتهر بزراعة العديد من المحاصيل الزراعية كالقمح والذرة والثوم والبصل وبعض أنواع الخضروات كالطماطم والفلفل إضافة إلى زراعة بعض أنواع الفاكهة كالمانجو والسفرجل، كما تشتهر القرية بزراعة أصناف متنوعة من النخيل في مقدمتها نخيل النغال والفرض والخصاب والخلاص والخنيزي”.
المصدر: نشر بالإتفاق مع الكاتب ومع مجلة ” رحّال ” العمانية التي نشرت التحقيق.