بدر بن سالم العبري
نواصل الحديث عن القرآن في رمضان، وقد تحدثنا في اليوم السابق عن الإنزال في رمضان، وسيكون الحديث في هذا اليوم عن الجانب المقصدي والحضاري لهذا الإنزال من خلال قوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
وسنجد في هذه الآية وصفا للقرآن بأمرين، الأول الهداية وهي عكس الضلالة، والثاني البينة وهي عكس الغموض والحيرة، وذلك لأنّ الناس يبحثون في حياتهم إلى من يخلصهم من الحيرة والاضطراب، إما لكونهم ولدوا في بيئة لا تعرف شيئا عن الخالق، حيث تحجرت عقولهم بسبب عامل الزمن، وتراكم الحجب البيئية والثقافية على هذه الرؤية الواضحة.
وقد تكون الحيرة بسبب المورثات البشرية التي أضيفت إلى الأديان السماوية الثلاثة، فتحريف التوراة والإنجيل، مع إضافات الأحبار والرهبان باسم المشناة أو التلمود، أو شرح اللاهوت ونحوها.
بجانب التحريف الذي أضيف إلى تفسير القرآن، عن طريق المد الروائي، والنقل الإعجابي عن أهل الكتاب، بنسبة ذلك إلى الرسول أو الصحابي أو التابعي تحت مظلة الأثر وفهم السلف الصالح.
أو نتيجة الافتراضات العقلية التي أبعدت الروح جانبا، وتعلقت بالمادة في أكثر جوانبها.
بجانب هذا وذاك الخرافات الاجتماعية، والفلسفات البشرية، وتراكمات التأريخ ومفرزاته الإنسانية.
من هنا سيبحث الناس عمن ينقذهم من هذه الحيرة المتراكبة، ويقودهم إلى بر السلامة، وهذا لا يكون إلا في الكتاب الخاتم، والذي حفظه الله سبحانه وتعالى عن أيدي العابثين، وتحريف المبطلين، وتأويل الغالين، وهذا الحفظ تميز بأمرين:
الأول: حفظ النص إلى يوم الدين، ومصداق هذا قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[1].
الثاني: حفظ المعنى، حيث جعله سبحانه ميسرا للجميع، يفيض هداية ونورانية لمن أراده واتبع سبيله، قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[2].
وعليه كما أنّ القرآن كتاب هداية، كان في الوقت نفسه أيضا كتاب تبيان وبيان، فآياته تحوي من البينات الواضحات، وتفيض من النورانيات، وهذه البينات تقود إلى أمرين اثنين: الهداية الربانية، والفرقان الواضح، وهذان الأمران هما مربط الفرس لخلاصة الناس اليوم من تناقضات فكرية وتصورية وانحرافات عملية وسلوكية، وتراكمات بشرية ومجتمعية، وعليه آيات الكتاب العزيز كما هي واضحة جلية؛ كانت في الوقت نفسه فرقانا بين الحق والباطل، ومفرقا بين النور والضلالة، والإيمان والكفر.
ويجمل ما تقدّم كله قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}[3]، فالقرآن كما هو كتاب هداية فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالفرقان أي المفرق بين الهدى والضلال، والحق والباطل.
ونجد في هذا الجزء من الآية أنّ الله تعالى لم يقل هدى للمؤمنين؛ وإنما قال: هُدًى لِلنَّاسِ، فالقرآن كتاب هداية للناس كافة، عربيهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم، رئيسهم ومرؤوسهم، ذكرهم وأنثاهم، لا فرق بين هؤلاء جميعا في حاجتهم للهداية والفرقان القرآني.
وبعد هذه المقدمة نأتي إلى أساس ذكر هذا الكلام، حيث جاء معلقا على جزء: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}، وقد تحدّثنا عن هذا الجزء في اليوم السابق، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى يبين الجانب المقاصدي من ذكره في آيات الصيام بأنّ هذا القرآن الذي أنزل في رمضان هو كتاب هداية وبيان وفرقان.
وعليه ندرك اليوم نتيجة التراكم الروائي والأثري والتأريخي الأثر في انحراف فهم الناس في التعامل مع القرآن في شهر القرآن، ويظهر هذا جليا إذ أصبح هذا القرآن في رمضان إما أورادا تقرأ بسرعة، أو أغنية في المساء خاصة أي في التراويح، لذا لن نجد بُعْدَ الهداية والبيان والفرقان ظاهرا في شهر الصيام، وذلك لبعد الناس عن التدبر والنظر والتفكر وعرض العمل والتصور على القرآن الكريم.
سنجد العديد من الناس يتنافسون في عدد الختمات لأنّ العالم الفلاني كان يختم شهره بثلاث أو أكثر، ونجد الإمام يطيل على الناس بكثرة قراءته ليريهم قوته في حفظه، ومن المأمومين من يرفع رجلا وينزل أخرى من التعب والرهق، والعجب يكون هذا في نافلة التراويح، ويحافظ عليها أكثر الناس من الفروض الواجبة!!!
من هنا استطاع الشيطان أن يحرف الناس في آلية التعامل مع القرآن في شهر الصيام؛ لأنه سيحقق الأبعاد الحضارية والمقاصدية للأمة والإنسانية عموما، ليتحول هذه الكتاب من حلقات تأمل عقلي، وتدبر مقاصدي، وعمل تطبيقي، وأخلاق وسمو إنساني، إلى تراتيل لا تفهم منها شيئا لسرعتها ورغبة أن ينال القارئ أكثر من ختمة في شهره.
من هنا يذهب رمضان، والعديد يهجر القرآن رأسا بعده، فضلا أنّ المحصلة القرآنية في رمضان تبخرت بذهابه، وأصلا لم تكن هناك محصلة لأنّ الهدف عدد الختمات، لا التأمل والتدبر والعرض.
[1] الحجر/ 9.
[2] القمر/ 17.
[3] آل عمران/ 2 – 4.