الكاتب: محمــد العامــري*
“إنك لن تساعد النبتة على النمو بشدِّها لأعلى” حكمة صينية
سلامة (٥٥ سنة) وهي تنظر إلى مرآة كبيرة بعيدة نوعًا ما في مكان عام: انظر إلى صورتي المنعكسة في تلك المرآة.. آآآآآه أترى ما فعل بي الزمان؟! جسم مترهّل وتجاعيد مقرفة و
قاطعها زوجها خميس (٦٦سنة) : ولكن – على الأقل – نظركِ قوي جدًا !! لدرجة أنك ترين انعكاس صورتك في تلك المرآة البعيدة.
سلامة (وهي تلتفت لخميس بغضب عارم ويأس شديد): تقصد أن كلامي صحيح؟ هاه؟ ألهذه الدرجة أصبحتُ قبيحةً في نظرك؟ يا للحسافة !!
ومن هنا تصاعدت حدة الحوار حتى انتهى الأمر بالطلاق !! بعد زواج دام ثلاثين سنة مع ثلاثة أبناء وخمسة أحفاد.
***
سوف تجدون في هذا المقال إجابة كاشفة عن السؤال الآتي:
مَــن هو العدو (رقم واحد) للمُقْنِــع؟
أعتقد أن على المُقْنِع المحترف أن يكون أكثر وعيا لبعض الممارسات ذات الأثر العكسي.
إن المعلومة التي أتت بك إلى قراءة هذا المقال هي موثوقة تمامًا، وسوف تنقسم الإجابة حول السؤال المذكور إلى محورين لا ثالث لهما:
١) ما ماهيّة العدو (رقم واحد)؟
٢) ما معزِّزات العدو (رقم واحد)؟
١) ما ماهيّة العدو (رقم واحد)؟
عندما تستحضر ما جرى بين سلامة وخميس، تلاحظ أن سلامة قد غضبت وحزنت من تأييد زوجها خميس غير المباشر للكلام الذي قالته بنفسها !!
إنها طبيعة بشرية، فنحن نقرُّ بيننا وبين أنفسنا بسلبياتنا، لكن ما إن يصدر ذلك الإقرار من الغير حتى تنطلق مدافع التبرير والاعتراض والهجوم والدفاع وجميع ما يمكن تصوُّره لحفظ ماء الوجه.. أليس كذلك؟!
هذا فضلا عن الرسالة السلبية التي ستنطبع في أذهاننا، مفادُها: هذا لا يحترمني.. لا يتقبَّلني.. لا يتفهمني، وهذا من شأنه أن يكون له آثار سلبية خطيرة، من أبرزها: أن أي ثناء إيجابي يصدر لاحقًا من الغير سيتم النظر إليه على أنه ترقيع فارغ بمودة زائفة، وهذه القناعة يستلزم ترميمها وقتا وجهدا كبيرين، فَلِمَ تُترك الأمور تصل لهذا الحدِّ؟!
فإذا كان ذلك كذلك كان لِزامًا على المُقْنِع المحترف أن يُراعي هذه الطبيعة البشرية حتى لا تُكوِّن حاجزا بينه وبين المستهدَف (الطرف الآخر) فتنشأ لديه مقاومة تُوصِل العملية الإقناعية إلى نهاية مسدودة..
فالمقاومة مانعةُ إتمام العمليات.. لسبب واضح للغاية؛ وهو كونها تُفقِد ثقة المستهدَف فيك، فـ “الثقة هي الغِراء الذي يلصق كل مكوِّنات عملية الإقناع”[ذكاء الإقناع، كيرت دبليو مورتينسين، ص116، مكتبة جرير، الطبعة الأولى، 2011م] ولستُ أُبعِد النجعةَ إن قلت إن تعزيز الثقة هو أولى الخطوات التي يجب على المُقْنِع المحترف اتباعها، بشرط الاتزان وعدم المبالغة في عِمارة الودّ فتؤدي لشخصية مهتزة أو باعثة للريب.
قد تقول لي:
-حسنًا.. قد استسغتُ تمهيدك السابق، فإلى أين تريد أن تصل؟
— إن أجمل ما فيك هو أنك بالنسبة لي مصدر تعميق للمعلومات التي أشاركها معك، فلنكمل الرحلة إذن:
إنَّ مقاومة المستهدَف تنشأ من خلال عوامل متعددة، وفي هذا المقال سأركز على عامل اندفاعية المُقْنِع في الاستماتة لإقناع المستهدَف بالتخلّص من سلبيةٍ ما – سواء في رأيه أو سلوكه أو أية خصوصية أخرى – الأمر الذي يبني لديه مقاومة صلبة فتفسد العملية برمَّتها..
فشريحة واسعة من المُقْنِعين تحسبهم – من لجاجتهم وإلحاحهم – أنهم يودون أن يكون جميع الناس نسخة مكررة من آرائهم وسلوكياتهم وقناعاتهم ونمط عيشهم وقوائمهم في المحبوبات والمكروهات..
ومن ناحية أخرى يظنون أن الأدوات الإقناعية التي يمتلكونها كافية لإقناع أي شخص بغضِّ النظر عن أية معطيات أخرى، وكأنَّ الأمر في مجمله معادلة رياضية محسومة النتائج، فتأخذ شخصياتهم طابع المجادلة في كل شيء مهما بدا تافها، ليكونوا بعدها موضع نفور ممن حولهم، فهم لم يُقنعوا المستهدَف إلا بأنهم يستحقون الكُرْه..
إننا – بحق – بحاجة ماسّة لجلب الاتزان لكثير من المفاهيم فما هكذا يا سعدُ تُوردُ الإبل !!
على أن هذا الاندفاع ليس بالضرورة أن يكون تصريحا، فقد يفرُّ الكثير من التصريح – إيمانًا بضرره الكبير – ليقعوا في خطإ أكثر جسامة بلا وعي، كالمستجير من الرمضاء بالنار !! فيقومون بالتلميح، وهو أشد نُفرة وأجلبُ للضغينة، ونسميه في لهجتنا الدارجة: “تْنَقِّـيْمَة” أو “الدقّ بالكلام” حتى لو كان تلميحًا بعيدا، فللناس أذهان تعي ذلك وتشمئز منه، كما حدث للشاعرَين اللذَين أزعجهما تقريب سيف الدولة للمتنبي، فقالا له: إنك لتغالي في شعر المتنبي، فاقترح علينا ما شئت من قصائده حتى نعمل أجود منها، فدافعهما زمانا ثم ألحّا عليه، فأعطاهما قصيدة المتنبي التي مطلعُها:
لعينيكِ ما يلقى الفؤاد وما لقـــي وللحُبِّ ما لم يبقَ مني وما بقي
وما كنتُ ممن يدخل العشقُ قلبَه ولكنَّ مَن يُبصرْ جفونكِ يعشقِ
فقال أحدهما للآخر: ما هذه من قصائد المتنبي الطنّانات، فلأي شيء أعطانا؟ ثم تأمّلاها فلم يُراجعا سيف الدولة مرة أخرى بسبب وجود هذا المقطع فيها!:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمقٍ أراهُ غباري ثم قال له اِلحــقِ
وما كَمد الحساد شيئا قصدته ولكنه من يَزحم البحر يغرقِ !!
ومن الدقيق أن أشير إلى عبثية اندفاعية المُقْنِع حينما يحاول جاهدا إقناع شابٍ بسلبيةٍ ظاهرةٍ كعادة قضم الأظافر، فذلك الشاب يعي جيدا أن تلك عادة سلبية مشينة محرجة ولكنك لا تدرك الأسباب الكامنة وراء ذلك، وليس بانتظار أن تلفت انتباهه لاكتشافك العظيم، بل هو يريد كيفية التخلص منها، لكن متى أذن لك بالولوج لهذا الأمر الشخصي، وإلا فالزم حدّك، فالناس ليسوا كَلَأً مباحا لفضولك.
ماسبق يمكّنني الآن بكل ثقة أن أقول:
إن العدوَّ (رقم واحد) للمُقْنِع هو المُقْنِع نفسه عندما يُنشِئ مقاومَة لدى المستهدَف !
***
أصبحنا الآن مهيئين بصورة ممتازة للانتقال بكل سلاسة للمحور الثاني:
٢)ما معزِّزات العدو (رقم واحد) ؟
سأستعرض – في هذا المحور – نتائج تجاربي الشخصية وليست الأكاديمية من خلال يومياتي وكذلك عبر تطبيق الواتساب في الفترة الحالية، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي في فترة جميلة سابقة من حياتي، حول:
أبرز معزِّزات اندفاعية المُقْنِع لإقناع كل مَن حوله بكل شيء، والذي من شأنه أن يُنشئ مقاومة شديدة لدى المستهدَف تصفعه بنتائج عكسية، وإليك فيما يأتي تفصيل ذلك:
أ)التعصُّب:
التعصُّب هو العَصَبُ الرئيس والمتهم الأول في اندفاعية المُقْنِع، وهو إفراز طبيعي للافتقار لمهارة القَبول والتفهُّم، وتعني مدى القدرة على استيعاب اختلاف الآخرين، على أنَّ تفهُّم ذلك لا يعني الاتفاق معها بل احترام حق الآخر للاقتناع بها..
فتجد المُقْنِع كلما كان ذا أفق واسع كان أكثر قبولا للاختلافات بين الناس، حيث يراها على أنها مظهر صحي للطبيعة البشرية، أما المُقْنِع ضيّق الأفق فيمكنه أن يتعصَّب حتى على أمر ذوقيّ كذوق الآخرين في طعامٍ ما مثلا، لا لشيء سوى أنه مخالفٌ لذوق فخامته !
إنْ كنتَ من المتعصبين فلديّ لك خبرٌ سارٌّ، وهو أني لم أجد شخصًا مثاليا يمتلك مهارة التقبُّل بجدارة عالية سوى معلمة يوجا هندية، فكلُّنا – في الحقيقة – نمتلك تعصُّبا، كلُّ ما في الأمر أننا نمتلكه بنِسَبٍ متفاوتة، والفطن مَنْ يسعى لتخفيض تلك النسبة لأقصى درجة ممكنة، على أن للتعصُّب مواقدَ تُذْكي جمرته، بَيْدَ أن كلها – مهما تعددت صورها – عاطفية نفسية، مهما اتُّخِذَ الدليل شماعة لذلك.
ب)حُسن النية مع سذاجة الأسلوب:
لم يكن حُسن النية يوما مبررا صالحا لسذاجة الأسلوب، ومع ذلك تجد شريحة واسعة من المُقْنِعين المندفعين يسترْوِحون لصفاء نياتهم، ويجعلونها تُرسا لأية سذاجة تصدر منهم، وهذا فيه تعدٍ صارخ على مبدإ احترام إنسانية المستهدَف، فحريتك في التلويح بيدك تقف عند أنف الآخر !!
ج) الطبيعة الشخصية:
إن التمتع بهدوء البال لهُوَ أمرٌ حيوي، والتحلّي بذهن منفتح لهُوَ نمط حياة مُريح، ومع ذلك أقول: إنه ثمّة استجابات سلبية ارتجالية ناشئة من العقل الباطن؛ نتيجة استسلام هذه النوعية من المُقْنِعين لطبيعتهم المتشنّجة بدون السعي الجاد، فمثلُنا الشعبي: ” قُصّ صُبْع ولا تغير طُبْع” ينطوي على كثير من المغالطة التي كان لها أبعاد سلبية في حياتنا، فلا نلبث أن نمارس عادةً ما لمدةٍ معينة حتى نظن أنها أصبحت طبعنا الذي لا مفرّ منه ولا فكاك، مع أن الواقع – الذي هو خير برهان – متشبّع بالكثير من أمثلة الذين حسَّنوا حياتهم بعدما أمضوا ردحًا من الزمن في أسلوب حياة مغلوط.
والذي يزيد في الطنبور نغمة نشازا هو أن يصحب الطبيعة الشخصية أسلوب استهزائي أو استعلائي أو جافّ..
د)الغرور:
لطالما آمنتُ بأن أضعف ما يكون الإنسان عندما يتربع في قمة نشوة الانتصار والنجاح، لذلك فإن الأريب من يكون مراقبا شديدا عند وصوله لهذه النقطة، فمتى ما تملّك الغرورُ المُقْنِعَ في الأدوات التي يتقنها دعاه ذلك للتهوّر بلا بصيرة، فتذهب جهوده سدى، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فلا تجده حينئذٍ إلا مجادلا هذا ومناقشا ذاك ظانّا أن مفهوم الإقناع هو الجدال بالحجة حصرًا وكثرة الكلام!!
هـ) الحسد:
من أَرْدَإ معزّزات اندفاعية المُقْنِع هو حسده للمستهدَف، وهو وإن كان في ظاهره محاولة إقناع للتخلص من سلبيةٍ ما، إلا أنه في حقيقته يُعدُّ محاولة لإقناع المستهدَف بأنه فاشل، لا لشيء وإنما حسدا بهدف أذيته نفسيًا، أو خلق ردة فعل عكسية بحيث يقوم المستهدَف بالإصرار على تلك السلبية عنادًا، وهذا بالضبط ما يسعى له المُقْنِع الحاسد، ولذلك قرائن ليس هنا مجال سردها..
و) المصالح الشخصية:
قد يكون وراء اندفاع المُقْنِع ليس إقناع المستهدَف لمصلحته، بل لمصلحة شخصية ضرورية للمُقنِع نفسه، فتجده يقوم بما يمكن متعديا كل الحدود، كلُّ همه هو إقناع المستهدَف للحصول على بُغْيته.
***
وبعد أن استعرضنا سويا أبرز معزِّزات اندفاعية المُقْنِع، فلتسمح لي عزيزي المُقْنِع المحترف أن أختم بتساؤل مثير..
ماذا لو كنتَ عزيزي المُقْنِع المحترف مستهدَفا من قِبل مُقْنِع مندفِع.. كيف ستتعاطى معه حينها؟!!
اعتبر نفسك دكتورا والمُقْنِع المندفع مريضا، ولتكن أنت المُقْنِع واجعله مستهدَفا.. كيف؟
سأجيب عن الشق الأول، أما عن الشق الثاني فستجد الإجابة منثورة من خلال قادم المقالات:
أولا وقبل كل شيء من الضروري أن تعرف ما هو معززه الاندفاعي..
فمَن معززه الاندفاعي التعصُّب فهو مريض فكري، وهو أعمى فلا حاجة إلى أن تدخل معه في عملية إقناعية مضادة، بل قُم بمجاراته، ومحاولة فهم وجهة نظره بعمق أكبر..
ومَن معززه الاندفاعي حُسن النية، فهو مريض أسلوبيّ فقط، لذلك استمع له بكل أريحية واستفد منه..
ومَن معززه الاندفاعي الطبيعة الشخصية فهو مريض نفسي، تعامل معه كالمتعصّب..
ومَن معززه الاندفاعي الغرور فهو مريض أخلاقي، اكتفِ بمدح أسلوبه الإقناعي حتى تُشبع غروره فيكفّ عنك..
ومَن معززه الاندفاعي الحسد، فهو مريض نفسي، وهو قد اختارك لإعلان فشله لأنه يراك أكثر تألقا منه، ولسان حاله يقول: كُن فاشلا مثلي فأنا لا أتحمل تميّزك.. وهذا يدعوك للفخر وليس الاسفزاز، فليس لأحد رأي فيما ستصبح عليه !! لذلك لا تهدر طاقتك بوقف هذا المسكين عند حده، بل اعمل كلاعب الآيكيدو عندما يتلقى ضربة (البوكس) من خصمه، فهو لا يصدها بل يتنحى قليلا لتواصل قبضة يده طريقها ثم يمسكها ويلقي خصمه أرضا (ضربة معلم)..
ومَن معززه الاندفاعي المصالح الشخصية فهو مريض قِيمي، فأظهر له حياديتك فقط..
تنبيه:
ما تم التطرق له آنفا لا يُلغي المصارحة بل يلغي الاندفاعية في المصارحة بدون جسّ النبض المتزن لسماح المستهدَف بمناقشة ذلك الأمر؛ فالأمور الشخصية خط أحمر يعتبره المستهدَف جزءا لا يتجزأ من كيانه، فكن ذئبا رزينا لا ثورا هائجا، وعموما فالمقال ينطبق بشكل أساسي على الإقناع الفردي، أما الإقناع الجماعي فله قوانينه المستقلة التي تشترك مع قوانين الإقناع الفردي في جانب وتفارقه في آخر.
أنا أتفق معك كليا على أن علم النفس التحليلي قد اختطف قلمي في هذا المقال، وهو أمر جيد لأنه يوضح لك أن (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف بحاجة لعلوم ومهارات متعددة لا أن يقتصر تركيزه على الأساليب (التفاوضية/الإقناعية).
وكمسك الختام.. أودُّ أن أعلن امتناني لجميع المتابعين والمتابعات الذين شاركوني تجاربهم الإقناعية، والتي استفدت منها جدا، وأخص بالامتنان الذين اقترحوا عليّ الكتابة في مواضيع رائعة كروعة قلوبهم، وسأقوم بتلبية اقتراحاتهم بما ينسجم والمعطيات المتاحة لديّ.
عزيزي (المفاوض/المُقْنِع) المحترف:
أريدك أن تكون بالجوار، ففي المقال القادم سنكون أنت وأنا بصحبة المحقق الشهير شارلوك هولمز، وأزعم أنه سيكون من أجمل المقالات التي أشاركها معك..
كم تُسعدني مشاركتكم إياي تجاربكم الإقناعية على بريدي الإلكتروني:
m.alaamri610@gmail.com
*كاتب ومدرب وباحث متخصص في التفاوض والإقناع / مؤسِّس فرْضية الإقناع السري (SPx8) مسجلة لدى دائرة الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة / ماجستير لغة عربية / ممارس معتمد من المركز الأمريكي للتنويم بالإيحاء.