بدر بن سالم العبري
نواصل الحديث عن آيات الصيام، ونبقى في هذا اليوم مع الجزء الأخير من الآية (184) من آيات الصيام، وقد رأينا الراجح في الجزء من قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} حيث يرتبط بالجزء: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
وهذا الجزء فقد مر بنا الخلاف حوله هل هو ناسخ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} على اعتبار الطاقة من طوْق، أي يطيق الفعل ولكنّ مرخص له الفدية إذا أراد عدم الصيام ولو كان قادرا على الصيام، وقيل هذا كان في بداية فرض الصيام على اعتبار سنة التدرج في التشريع، والصواب ما قلناه في اليوم السادس أنّ الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} غير منسوخة، والطاقة من طوّق أي الذي يقدر الصيام مع الكلفة والمشقة كالكبير والعاجز، وعليه الجزء: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} غير ناسخ لشيء تقدم، وإنما هو مستقل بذاته، متعلق خصوصا بما سبق.
والعلماء اختلفوا في هذا المتعلَق به، فقيل هو متعلق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[1]، أي أنّ الصيام تشريعه خير ومنفعة لكم في دنياكم وأخراكم، وهو من باب الحث على المحافظة عليه من الإهمال والضياع والتقصير.
وقيل هو متعلق بالرخصة في الفطر في السفر والمرض خصوصا، وعند المشقة الشديدة في الصوم عموما، فتكون بهذا متعلقة بالجزء: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
وقيل هو متعلق بالصيام مع المشقة خصوصا، حيث يقدر عليه مع المشقة، إلا أنّ الصيام أولى، ويستثنى إذا قاده إلى الهلاك فيكون الفطر في حقه واجبا، وعليه فيكون هذا الجزء متعلقا خصوصا بالجزء: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
ومن ذهب أنّ الطاقة من طوْق، أي يطيق الفعل، وممن يرى بقاء الآية وعدم نسخها، فذهب إلى أنّ الجزء هذا قرينة في جواز الفطر مع الفدية ولو عند عدم المشقة، والصيام أولى، وهذا قول شاذ مرجوح.
وعليه نميل إلى أنّ الجزء هذا يعود إلى بداية الجزء كله من الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وذلك لأنّ افتتاح الآية بدأ بقوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، حيث بين سبحانه تعالى قلة هذه الأيام، إلا أنّ لها مكانة عند الله تعالى فكان ختام الآية بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فحدث بينهما تناسق بديع، وتآلف لطيف، خاصة وأنّ الله سبحانه وتعالى ذكر بينهما قاعدة بشرية تتناسب مع العجز البشري الذي جبل عليه بسبب سفر أو مرض أو مشقة، وعليه كان هذا استثناء من القاعدة، والاستثناء كما هو معلوم لا يأخذ حكم الأصل، وعليه بقاء الأصل كحاله، فيكون الصيام خير من الفطر لسبب، ومع هذا لا حرج من الفطر لسبب إن قدّم على الصوم.
ونجد هنا أنّ الله تعالى يختم الآية بلفظة العلم، والعلم أعلى درجات التصور المنطقي، وهو تصور الأمر على حقيقته وماهيته، وجاء الأمر بالفعل المضارع: تَعْلَمُونَ، وذلك لأنّ البشرية كلما ارتقت في الوسائل المدركة للعلم كلما توصلت إلى إدراك الكثير من العلل والأحكام في تشريعات الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من لدن حكيم خبير.
وفوائد الصيام بلا شك ليست فوائد دينية فحسب، بل للصيام من الفوائد النفسية والتربوية والمجتمعية، بجانب الفوائد الصحية إذا أحسن التعامل معه.
بل أنّ الصيام مستشفى في حدّ ذاته، ومصحة تعلم الإنسان الوقاية من الداء، ومعظم الداء كما يقول الأطباء سببه المعدة، ولذلك سميت المعدة بيت الداء، ونجد الصيام يعلم الإنسان كيف يتعامل مع أكله وشربه ليحافظ على سلامة معدته، وبالتالي يحافظ على صحته.
وعليه الصيام يكون مشكلا للمجتمع الحضاري الجامع بين الدنيا والآخرة، وبين المسجد والمجتمع ككل، وعليه يضيف للمجتمع الإسلامي سبلا للتخلص من الكثير من المشاكل الاجتماعية والصحية والتربوية، فهو بحق جامعة سنوية رائعة الجمال والنتاج.
إنّ الصيام كفيل بتحقيق ثورة على جميع الاتجاهات والسبل لو وقفنا بحق معه وقفة فردية وجماعية ووقفنا بصدق مع قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
[1] البقرة/ 183.