بدر بن سالم العبري
إنّ السور الذي يحيط بمعالم العبادات هو سور التقوى؛ وذلك حتى لا تتحول هذه العبادات إلى طقوس رهبنة لا أثر لها، ولا جوانب حضارية تستنبط منها، لذا سنجد الإشارة إلى التقوى في جميع شعائر العبادات، ففي الصلاة مثلا يقول تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[1]، والبعد عن الفحشاء والمنكر مظهر مهم من مظاهر التقوى.
وفي الحج ربط الله العديد من مشاعره بالتقوى، مثلا عند ذكر الهدْي قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[2]، فليست العبرة بطقس الهدي والذبائح؛ وإنما العبرة بالقصد المصاحب من إخلاص لله تعالى، وإظهار لنعم الله بإطعام الجائع، وإعانة المحتاج، وهذا من أهم عناصر البعد الحضاري للتقوى.
بل نجد الله سبحانه وتعالى يظهر ذلك ظهورا ساطعا مبينا به المعلم الحقيقي للعبادات حيث يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[3].
فالتقوى من العبادات يساوى الصدق في أدائها، وإظهار أبعادها، وهذا لا يكون بعشرات الركع، ومئات السجود، وإنما بالأبعاد الناتجة عنها، والمشكّلة للبعد الحضاري للأمة والمجتمع، وقد ذكر الله في الآية الأخيرة أبعادا منها البعد الاجتماعي بصلة القربى، وإعانة المحتاج، وبعد الحرية بعتق الرقاب، وبعد الصلة بالله تعالى بالخشوع في الصلاة، وبعد وفاء العهد والاهتمام بالمواعيد، وبعد الصبر في جميع الأمور، وخاصة عند العزائم في مواجهة الشدائد الكبار، كل هذه المظاهر من التقوى تتشكل من العبادات التي شرعها الله تعالى، لا مجرد حركات طقوسية خاوية على عروشها.
والصيام في حدّ ذاته مدرسة وجامعة للتقوى، من هنا نجد القرآن يضع سورا متينا يدور حول آيات الصيام، فيفتتحها سبحانه بـ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ويختتم آيات الصيام بـ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
ولعل هنا بمعنى لكي، أي من أعظم مقاصد تشريع الصيام التقوى، ونجد الخطاب يتكرر كذلك بصيغة الجمع من خلال ميم الجمع في لَعَلَّكُمْ، وواو الجماعة في تَتَّقُونَ، والغاية أنّ التغيير المراد من الصيام يشمل المجتمع بمجموع أفراده، وعليه لابد من بيان التقوى من الصيام، حيث يُخطئ العديد من الناس من تصور ذلك مجرد ركعات تزيد في الصيام، أو الإكثار من عدد ختمات القرآن، هنا تحول مظهر التقوى في الصيام إلى مظهر شكلي لا تأثير له إلا من حيث زيادة عدد الطقوس في الصيام.
لذا سنجد صورتين متلازمتين في رمضان، تشكلان بُعدا خاطئا للصيام، الصورة الأولى: تصور أنّ العبادات المثاب عليها تكمن في طقوس تعبدية محضة، فنجد التقصير في الدراسة والعمل، بل حتى التقصير في حق الأسرة والأزواج، فيتصور أنّ رمضان عظمُته وجلالتُه مرتبطة بالابتعاد عن مظاهر الحياة، وهذا خلل كبير، فالتقوى تعني تقوية الحس الرباني، والارتباط بالله سبحانه وتعالى قصدا وعملا، مثلا الأمانة في العمل قد تكون شيئا قانونيا معتادا، أما هنا فيتحول من جانب قانوني روتيني يتخلله الرتابة والملل إلى جانب تعبدي يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى، ويسعى في صيامه أن يبذل قصارى جهده لتربية نفسه على الإخلاص والأمانة، ليعتاد على ذلك طول العام، من هنا يتشكل الجانب الحضاري الرفيع من الصيام في جميع مجالات الحياة، في البيت ومكان العمل والسوق بجانب المسجد.
أما الصورة الثانية فتعود إلى الخلل الذي يصيب الصيام من جهتين: الجهة الأولى وتتمثل في الجزء اليومي في الصيام، فنجد التضرع والابتهال في نهار رمضان، بينما يختل هذا في ليل رمضان، فنجد التقصير حتى في محارم الله تعالى بانتهاكها في ليل رمضان، وإذا أساء إليه أحدٌ في النهار قال: إنّي صائم، بينما يتحول في الليل إلى حيوان مفترس وكأنّ الصيام قد ولى وذهب، وهذا عائد إلى خلل عقدي وتصوري سيأتي بيانه أكثر في الأيام القادمة.
ولتوضيح ذلك أكثر حتى يرتبطَ البيانُ بالتقوى، نضع هاتين المقدمتين: المقدمة الأولى أنّ رمضان فرضٌ واجب، وله مكانة رفيعة، والمقدمة الثانية: أنّ الذي فرض رمضان وأضاف إليه هذه الكرامة هو الله سبحانه وتعالى، وكلا المقدمتين صحيحتان عقلا وشرعا، إذا النتيجة: إنّ المستحق للعبادة والنظر إليه هو الله تعالى وحده، والله منزه عن أمرين: الأمر الأول الأفول، والأمر الثاني الشّرك، فالذي يتوجه إلى رمضان نهارا وينسى اللهَ تعالى ليلا هو هنا أحد اثنين: الأول إما أن يكون في نظره يعمل لله، وكأن الله موجود في النهار يأفل في الليل تعالى الله عن ذلك، فالله تعالى لا يحدّه زمان ولا مكان، والثاني إنّه يشرك مع الله رمضان، بل نهار رمضان، وذلك لأنه يستحضر رمضان في نهاره ولا يستحضر ربّ رمضان، فلا يؤثر فيه إن غربت الشمس فالمعمول له في الحقيقة قد ذهب، وهذا شرك عملي خفي من حيث اللّغة، لا من حيث الاصطلاح المخرج من الملّة.
والصورة الثانية قريبة من الصورة الأولى إلا أنها هنا تتوقف عند انتصاف رمضان، فنجد همة استغلال الشهر، والتقيد بأحكامه تضعف بانتصاف رمضان، وتكاد تنعدم في الأيام الأخيرة منه، وهذا عائد أيضا إلى جانب التوحيد لله سبحانه، وإشراك الصيام بشكل خفي مع الله تعالى.
إذا التقوى معناها أولا النظر إلى الله تعالى قبل مخلوقاته، والتوجه إليه سبحانه وحده، من هنا يقول جلّ جلاله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[4]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[5]، ورمضان صورة مذكرة بالله تعالى، وكل شيء في الحياة مذكر به سبحانه، وعليه الصيام عنصر شكر له سبحانه لا إشراك، والثاني: الشمول حيث لا يقتصر على الجوانب التعبدية المحضة، بل يشمل جميع نواحي الحياة، فلا بدّ أن يكون للتقوى أثر فيه، ودور في استقامته.
خلاصة ما سبق: رمضان دورة تدريبية للتقوى، وهذا لا يقتصر فحسب على الجانب التعبدي بل يتمثل في الإصلاح الشامل لجميع جوانب الحياة، ليكون مدرسة حضارية للرقي بهذه الأمة.
[1] العنكبوت/ 44.
[2] الحج/ 37.
[3] البقرة/ 177.
[4] البقرة/ 152.
[5] الأحزاب/ 41 – 42.