الكاتب: حسن بن عبد الله العجمي
من أهم العلاقات الاجتماعية علاقة الصدّاقة والصّحبة، فالإنسان بحاجة إلى أصحاب وأصدقاء يجلس ويتحدث معهم، ويأنس بهم، وتسكن نفسه إليهم، فلا غنى له عن الصديق، فهو يعيش مطمئنًا بوجود من يشاطره أحلامه وطموحاته، ويخفف عنه من آلامه ومآسيه، فدور الأصدقاء في حياة الإنسان دور مهم ومحوري، ولكن ليس كل شخص يصلح أن يصادق، فالصديق له أثر على صديقه، سواء في اتجاهه نحو الخير أو الشر، فمن الممكن أن يجعل الصديق صديقه في منتهى السعادة، ومن الممكن أن يجعله في منتهى التعاسة والشقاء، فهو يؤثر فيه بسلوكياته وتصرفاته وأخلاقه.
وكما أنّ بعض الأمراض المعدية التي تصيب بدن الإنسان تنتقل من شخص إلى آخر بإحدى وسائل نقل العدوى ومنها الاتصال المباشر مع المريض ومخالطته، فكذلك الأمراض الرّوحيّة الأخلاقيّة تنتقل من شخص إلى آخر بسبب المعاشرة كالصحبة والصداقة وغيرها، فالمرء يتأثر بأخلاق وسلوكيات صديقه، فيتلقى منه شيئًا منها سواءً أكانت حسنة أم سيّئة، فلذلك على المسلم أن يبتعد عن الأشخاص المنحرفين عقائديًّا وسلوكيًّا، حتّى لا يتأثر بهم ويكتسب من أخلاقهم ويصاب بما أصيبوا به من أمراض وعلل روحيّة وأخلاقيّة، فكما أنّ من أهم طرق الوقاية للمنع من انتشار عدوى الأمراض البدنية المعدية وانتقالها من الشخص المصاب بها إلى الأشخاص الأصحاء هو ابعاد الصحيح عن المريض والمنع من مخالطته، فكذلك من أهم طرق منع انتقال الأمراض الأخلاقية الرّوحية ابتعاد المرء عن مخالطة الأشخاص ممن هم مصابون بهذه الأمراض.
ولذلك جاءت النصوص الشرعيّة محذّرة المسلم من إنشاء علاقة صداقة مع أشخاص يمتلكون خصالًا سيّئةً، أو ممن يمارسون ذنوبًا مخصوصة منعًا للتأثر بهم والاكتساب من أخلاقهم وأعمالهم وتصرّفاتهم السيئة، ومن ذلك ما عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك وإمّا أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد منه ريحًا خبيثة» (1).
فمن ينظر في أسباب انحراف الكثير من الأشخاص وارتكابهم للجرائم والمعاصي من القتل والاغتصاب والسرقة وتعاطي المسكرات والمخدّرات وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم والتقاعس عن أداء الفرائض والواجبات، وغيرها من الذنوب والآثام والفواحش يجد أنّ أحد أهم أسباب ذلك هم رفقاء السوء، ولذلك يفتي الفقهاء بعدم جواز مصاحبة من لا يأمن الإنسان على نفسه إنْ صاحبه من الوقوع في الحرام.
إنّ علاقة الصداقة التي تدعو إليها شريعة الإسلام هي تلك العلاقة القائمة على الإيمان والتقوى والمودّة والمحبّة والصدق والتعاون والوفاء والإيثار والاهتمام بالصديق والصاحب، ومشاركته في أفراحه وأتراحه، وغيرها من المفاهيم السامية التي هي أساس كل علاقة راقيه بين النّاس، فكأنّ الصديقين نفسًا واحدةً في جسمين مختلفين، فهكذا علاقة تكون مبنيّة على أسس صحيحة، فتعطي ثمارها إيجابيًّا على الفرد والمجتمع، فيكون لها الأثر الفعّال في ترويح النّفس وبثّ الهدوء والطمأنينة في كيان الفرد، كما أنّها أساس لتقوية الرّوابط والعلاقات الاجتماعية، وإيجاد روح التكافل والتعاون والتعاضد بين أبناء المجتمع.
إنّ خير الأصحاب والأصدقاء هو من يعين صاحبه وصديقه على أمور الآخرة (2). هو ذلك الشخص المؤمن المتقي، الذي يحمل في نفسه المحبّة والمودّة لصاحبه وصديقه، ويتعامل معه بالصدق قولًا وفعلًا، ويهتم به كما يهتم بنفسه، ويكون له مرآة، يأخذ بيده إلى الخير، ويبعده عن الشر، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وهو من يغفر زلّات صاحبه ويستر عورته وينشر محاسنه ويدفن مساوئه، وإن احتاج إلى عونه ومساعدته أعانه وساعده، بل ويؤثره على نفسه، وهذه السمات لا تكون إلاّ في المؤمنين المتقين، فهم من ينتفع المرء بصحبته وصداقته لهم، ومن لا تنقطع معهم هذه العلاقة، قال تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (3).
ثم إنّ من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين تجاه أولادهما مسؤولية التربية بقسيمها البدني والرّوحي، ويذكر علماء التربية مجموعة من العوامل المؤثرة في التربية الروحية السلوكية للأبناء ومنها الأصحاب والأصدقاء، ولكن كما ذكرنا سابقًا من أنّ الصّحبة والصّداقة سلاح ذو حدين، فقد تنتج من الآثار ما يكون سلبيًّا، بحيث يصل الأمر إلى حد أن يدمّر الأصدقاء بعضهم البعض وذلك عند عدم حسن الاختيار، فمثلًا قد يجد الفتى بعض أصدقائه يردد أمامه ألفاظاً بذيئة خارجة عن حدود الأدب أو مما يندرج تحت مفهوم الفحش من القول، فيرددها ويتلفظ بها مجاراة لأصدقائه ورفاقه، وقد يجد بعضًا من رفاقه يمارس سلوكًا مشينًا في نظر الدّين والمجتمع، فيمارس ذلك مثلهم، أو قد يغريه بعضهم بالمشاركة معه في تعاطي بعض المواد المسكرة أو المخدّرة، فينحرف مثلهم ويسلك سلوكهم ويمارس ما يمارسونه من جرائم وأخطاء ومخالفات شرعيّة.
يقول صاحب كتاب «الأخلاق ودورها في بناء الفرد ورقي المجتمع»: «تلعب جماعة الرّفاق دورًا بالغ الأهميّة في اكتساب الناشئ القيم والأخلاق، نظرًا لأنّها تضم جماعة متناسقة من حيث العمر، ومن ثم يتمكن الناشئ من اكتساب خبرات وقيم معيّنة لا يمكن اكتسابها داخل الأسرة أو غيرها من مؤسسات اجتماعية، وتنجح جماعة الرّفاق في نقل قيم وأخلاق متميزة للأقران، كما يمكنها أن ترسخ قيمًا سائدة، ويمكنها أن تحطّم قيمًا سائدة أيضًا» (4).
لذلك على الوالدين التنبه إلى خطورة مسألة الأصحاب والأصدقاء بالنسبة لأبنائهم ذكورًا كانوا أم إناثًا، فمراقبتهما لهم ومعرفة من يصادقون ويصاحبون هو أمرٌ في غاية الأهميّة، فلو أنّهما غفلا عن ذلك فلن تجدي تربيتهما لهم نفعًا حتى لو بذلا قصارى جهدهما ليسلكا بهم طريق الاستقامة والخير؛ فإنه سيأتي رفقاء السوء ليسلكوا بهؤلاء الأبناء طريق الشر، وبالتالي سيبوء كل جهد الوالدين بالفشل الذريع.
«فقد دلّت الأبحاث على أنّ درجة اعتماد الأبناء وبالخصوص المراهقين على رأي زملائهم أو تأثرهم بتوجيههم تختلف باختلاف مدى ونوع الاهتمام الذي يتلقونه من الوالدين، فالمراهقون الذين يفشل آباؤهم في توفير ما يحتاجون إليه من حب ورعاية أو الذين يفتقدون آباءهم لتغيّبهم عن المنزل بسبب أو بآخر يكونون أشد ميلاً إلى الاعتماد على جماعة الرّفاق» (5).
يقول أحد الشباب: «أرسلني والدي للدّراسة الجامعيّة في إحدى البلدان، وكنت محافظًا، وفي ذلك البلد تعرّفت على مجموعة من الطلاّب من نفس بلدي، وكانوا بعيدين عن الدّين وقيمه، إذْ كانوا يشربون الخمور، ويمارسون الفحشاء. وفي يوم من الأيّام دعوني للذّهاب معهم إلى إحدى النّوادي الليليّة، فذهبت معهم، وفي ليلة أخرى دعوني إلى حفل فذهبت، وطلبوا منّي أن أشرب الخمر فشربت، وبعد فترة من الزّمن أصبحت كواحدٍ منهم، وهكذا كانت نتيجة مصادقتي لقرناء السوء، وإهمالي لموضوع اختيار الأصدقاء» (6).
انظروا كيف أنّ هذا الشاب الذي كان محافظًا ولمّا أنّه لم يحسن اختيار أصدقائه فصاحب من ليس لهم التزام بدين ولا أخلاق وقيم حسنة وقع بسبب قرناء السوء في ارتكاب معصية شرب الخمر، وقد يكون مارس بسببهم ذنوبًا ومعاصي ومخالفات شرعية أخرى، فعليكم أيّها الآباء وعليكن أيتّها الأمهات أن لا تغفلوا عن أبنائكم، فالواجب عليكم أن تقوموا بالمسؤولية الشرعية والأخلاقية والاجتماعية الملقاة على عاتقكم تجاههم على أكمل وجه.
فكلّما حرص الوالدان على أن يكون أبناؤهما مع رفاق قد تربّوا على الخير والصلاح والأخلاق الحسنة الفاضلة وأبعداهم عن صحبة السيئين والمنحرفين كان ذلك عونًا لهما على تربيتهم وتنشئتهم على ما يريدون من الخير والصلاح.
ومن أجل توعية الأبناء وتحذيرهم من قرناء السوء على الوالدين إلفات نظرهم إلى تجارب الآخرين وحالات الانحراف التي تعرّض لها أشخاص عديدون بسبب علاقات الصداقة السيئة، ولو وجدت تجارب حيّة قريبة يعلم عنها الأبناء فلا بأس من إلفات نظرهم إليها، فإنّ ذلك يكون أكثر تأثيرًا فيهم لإبعادهم عن أمثال تلك العلاقات المنحرفة.
المصادر:
(1) تفسير البغوي 6/82.
(2) ينقل أن الحواريين سألوا عيسى «عليه السلام» فقالوا له: من نجالس؟ فقال لهم: «من تذكركم بالله رؤيته ويزيد في عملكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله». “تاريخ دمشق 47/”453.
(3) الزخرف: 67.
(4) الأخلاق ودورها في بناء الفرد ورقي المجتمع، صفحة 159.
(5) العلاقة مع الوالدين إلى أين؟، صفحة 66.
(6) فن التعامل مع النّاس صفحة 398 – 399.