جواو غيماريس روزا*
ترجمة: فيصل الحضرمي
سأحكي لك إن شئت، لا مغامرةً، بل تجربةً كنت قد انجررت لها عبر سلسلة متتابعة من النقاشات العقلانية، والتصورات الحدسية. ثمن الوقت المنفق والإحباط والجهد كان كبيراً. وإني لأنسب الفضل في ذلك لنفسي -دون تباهٍ. أنا متفاجئٌ، على أي حال، أنه كان علي أن أسلك طريقاً مختلفاً عن أي شخص آخر، وأن أوغل في عالم من المعرفة لا يزال غير مألوفٍ بالنسبة للآخرين. أنت مثلاً كثير الاطلاع، ولكنك، كما أفترض، لا تملك أدنى فكرة عن الطبيعة الحقيقية للمرآة. بالطبع تعرف شيئاً ما عن الفيزياء، وقوانين البصريات، ولكنني أتحدث هنا عن الطبيعة المتعالية للمرآة. فكل ما هو موجود ليس إلا قمة الجبل الجليدي للغزٍ ما أو غيره، بما فيها الحقائق أو غيابها. وعندما لا يحدث شيء، فإن هناك معجزة تحدث لسنا قادرين على مشاهدتها.
دعنا ننتقل إلى التفاصيل. ملامحك أسيرةُ مرايا عديدة: جميعها تعكس وجهك، وأنت تعتقد أن لك شكلك الخاص بك؛ شكل ثابت عملياً، عنه تمنحك المرايا صورةً صادقة. ولكن –أي مرآة؟ هناك مرايا “جيدة” وأخرى “رديئة”، تلك التي تتملقنا، وتلك التي تبالغ في إظهار عيوبنا؛ وبالطبع هناك تلك المرايا التي هي أمينة، ببساطة. لكن إلى أي درجة هي أمينة أو صادقة؟ كيف نبدو، أنت وأنا وبقية البشر، في حقيقة الأمر؟ إن قلتَ أن بإمكان الصور أن تجيبنا عن ذلك، فلن يكون ردي، وحسب، أن نفس الاعتراضات تنطبق أيضاً على عدسة الكاميرا، بل وأن الصور المأخوذة بالكاميرا تدعم فكرتي بدل أن تدحضها. فكثيراً ما تنطبع على مكوناتها علامات ملغزة. وحتى حين تُلتقط الصور مباشرة تلو بعضها البعض، فإن كل واحدة منها تكون مختلفة جداًعن الأخريات. إن كنت لم تلاحظ ذلك من قبل فلأننا، بطريقة يتعذر إصلاحها، نحيا حياتنا لاهين عن الأشياء الأكثر أهمية. وماذا عن الأقنعة المقولبة على الوجه نفسه؟ إنها تماثله في الشكل تقريباً، ولكنها تعجز عن محاكاة تعابيره المتغيرة بسرعة، أو حركاته الدينامية. لا تنس أننا نتحدث عن ظاهرة دقيقة للغاية.
ويبقى ذلك الاعتراض القائل بأنه يمكن لأي شخص أن يطالع وجه شخصٍ ما، وانعكاسه في المرآة، في ذات الوقت. وإني أدحض هذا الافتراض دون الالتجاء إلى السفسطة. إن تجربة كهذه، والتي لم يسبق لها أن نفذت بصرامة، ستفتقر لأي قيمة علمية، باعتبار التشوهات الحتمية ذات الطبيعة السيكولوجية. بإمكانك توقع مفاجآت مدهشة إن قمتَ بالمحاولة. علاوةً على أن التزامن متعذرٌ بالنظر إلى دفق التغيرات اللحظية. أجل، الزمن مشعوذ غادر… وعيناك ذاتهما، مهما بلغ حرصهما، مشوبتان بتشوهات أساسية، بعيوبٍ نكبر معها، وتصبح جزءاً من كياننا بالتدريج. الأطفال الرضع يرون الأشياء مقلوبةً رأساً على عقب، ما يفسر تخبطهم الغريب، ثم شيئاً فشيئاً يتمكنون من تصحيح رؤيتهم المتقلقلة لمواقع الأشياء.
هناك عيوبٌ أخرى، على أي حال، أكثر خطراً. عيوننا هي بوابة الزلل؛ شُكّ في عينيك، لا فيّ. أوّاه يا صديقي، بينما يناضل الجنس البشري لإضفاء قدر من المنطقية والنظام على هذا العالم الموّار، يشق شيءٌ ما، أو أحدٌ ما، صدوعاً وأثلاماً في كل زاويةٍ منه ليسخر منا…. وما الذي ينجم عن ذلك؟
ضع في اعتبارك أن اعتراضاتي، حتى اللحظة، تتعلق فقط بالمرايا المسطحة الشائعة في الاستعمالات اليومية. فماذا عن بقية المرايا -المقعرة والمحدبة والإهليلجية؟ فضلاً عن احتمال وجود أنواع أخرى غير مكتشفة إلى الآن -مرآة رباعية الأبعاد مثلاً. فرضيةٌ كهذه لا تبدو لي عبثية على الإطلاق، فقد نجح علماء الرياضيات، بمجرد أن امتلكوا البراعة الذهنية اللازمة، في صنع أشياء رباعية الأبعاد، باستخدام مكعبات صغيرة ملونة، كتلك التي يلعب بها الأطفال. أترتاب بوجود الأنواع الأخرى إذن؟
أرى أن تشكك في سلامة عقلي بدأ يتضعضع الآن. ولكن دعنا لا نحيد عن المألوف، والمتعارف عليه. نحن نضحك من تلك المرايا المشوهة في بيوت التسلية، والتي تحيلنا إلى مسوخ ضامرة أو منتفخة. ولكننا ندين باستخدامنا الحصري للمرايا المسطحة (رغم أن انحناءات إبريق الشاي تشكل مرآة محدبة لا بأس بها، فيما تشكل الملعقة المصقولة مرآة مقعرة جيدة إلى حد معقول) إلى صدفة أن أول نظرة ألقاها الإنسان على نفسه كانت عبر سطوح المياه الساكنة: البحيرات، والمستنقعات، والينابيع، والتي تعلم منها فيما بعد، عبر محاكاتها، كيف يصب تلك الأواني المعدنية والزجاجية التي جئت على ذكرها. ولقد حذر ترزياس نرسيس الجميل* أنه سيبقى حياً ما امتنع عن رؤية وجهه… أجل، نحن محقون في خوفنا من المرايا.
أما أنا، فقد كنت دائم الخوف منها مذ كنت طفلاً، بسببٍ من ارتيابٍ غريزي. الحيوانات هي الأخرى ترفض أن تنظر إلى المرايا، عدا بضعة استثناءات يمكن الوثوق بها. أنا من أطراف البرازيل النائية، مثلك أنت؛ ومن حيث أتينا يقولون أنه لا ينبغي لك أبداً، وأنت بمفردك، أن تنظر إلى المرآة في الساعات الأخيرة من الليل، لأنه أحياناً، عوضاً عن صورتك، تنعكس صورةٌ أخرى مرعبة. ولكنني شخص ماديٌ على أي حال، عقلانيٌ أُبقي قدميّ على الأرض ثابتتين. أأقنع بلاتفسيرات عجائبية؟ بالطبع لا. فأي طيف مخيفٍ عساه يكون؟ من هو الوحش؟
أيكون خوفي بدائياً؟ لقد بعثت المرايا الخوف الخرافي في نفوس أولئك البدائيين الذين اعتقدوا أن ما يتراءى للإنسان في المرآة هو روحه. وكقاعدة عامة، فإن الخرافات توفر نقطة انطلاق خصبة للبحث العلمي. روح المرآة –يا للاستعارة البديعة! ثمة أشخاص آخرون كانوا قد ماثلوا الروح بظل الجسد. بالتأكيد لم يفتك أن تلاحظ القطبية هنا: العتمة الشفيفة! ثم ألم تقض العادة سابقاً بتغطية المرآة، أو إدارة وجهها إلى الحائط، حال وفاة أحد في البيت؟ أليس استخدام العرّافين للمرآة، في الكرات البلورية التي بداخلها يلمحون المستقبل بصورة غامضة –إضافةً لاستخدامها في تأدية سحر المحاكاة أو السحر التعاطفي*- نابعاً من كون الوقت يغير سرعته واتجاهه في الطرف الآخر من المرآة؟
ولكنني أستطرد كثيراً… حسناً، كما كنت أقول لك، حدث ذلك في حمام بناية عامة في واقع الأمر. كنت شاباً، مختالاً، ومزهواً بنفسي. دون تفكير، نظرتُ…. ولكن دعني أشرح: كانت هناك مرآتان، واحدة على الجدار، وأخرى على باب جانبي يُفتح بزاوية مؤاتية. وما لمحته لثانية من الزمن كان صورة جانبيةً لوجه إنسان، بغيضةً لأبعد درجة، ومقرفةً وبشعةً للغاية. أصابتني تلك الصورة بالغثيان، وبعثت في نفسي مشاعر الحقد والخوف والرعب؛ وجعلت جسدي يتنمل. كان ذلك أنا –كما أدركت فوراً. أتظن أنني سأنسى تجلياً كهذا ما حييت؟
ومنذ ذلك اليوم رحت أبحث عن نفسي –في سطوح المرايا، في أعماقها الملساء البرّاقة، في لهبها البارد. لم يسبق لإنسان أن حاول القيام بأمر كهذا، على حد علمي. من ينظر إلى المرآة يفعل ذلك بانحياز متعاطف، بنوع من مقدمةٍ باطلة. لا أحد يعتقد حقيقةً أنه قبيح. في أسوء الأحوال ينتابنا عدم الرضا عن أنفسنا في بعض الأوقات، بسبب عجزنا عن بلوغ مثال جمالي متخيل. هل نجحت في توضيح مقصدي؟ ما نحاول القيام به عادةً، هو أن نفحص ونصحح، استناداً إلى شكل مثالي ذاتي ومسبق التصور؛ بمعنىً آخر، أن نضخم الصورة المتوهمة بإضافة طبقات أخرى متتابعة من الوهم. ولكنني، في المقابل، كنت أتصرف كمحقق غير منحاز، محايد بالكامل. كنت أطارد شكلي الحقيقي، مدفوعاً بفضول غير ذي مصلحة، بل وغير شخصي، وبشغفٍ معرفي. استمر الأمر شهوراً.
كانت شهوراً تثقيفية بدون شك. استعملت جميع الحيل المبتكرة، الالتفات جانباً ومعاودة النظر بسرعة البرق، التحديق بزاوية مائلة، المباغتة المعاكسة، خدعة الجفون، فخ المصباح المضاء فجأةً، الزوايا المتغيرة بدون توقف. وفوق ذلك، كنت متحلياً بصبر لا ينفد. راقبت شكلي في لحظات محددة: غاضباً، خائفاً، منكسراً أو شديد الزهو بالنفس، مسروراً جداً أو حزيناً. هكذا تكشفت الأحاجي أمامي. إذا ما واجهت صورتك بطريقة موضوعية عند الشعور بالكراهية، على سبيل المثال، فإن الكراهية، ستنحسر وتمتد، متضاعفةً بشكل كبير؛ وستدرك أن الإنسان، في حقيقة الأمر، لا يستطيع أن يكره إلا نفسه. العيون تعاين العيون. تعلمت هذا الأمر: عيوننا أبدية. وحدها تبقى ثابتة، لا تتبدل، في قلب اللغز. على الأقل عندما لم تكن تسخر مني من وراء قناع. أما بقية وجهي فكان يتغير باستمرار. أنت، مثل الآخرين، لا تلاحظ أن وجهك محض حركة أزلية مخاتلة. لا تلاحظ ذلك لأنك غير منتبه، مبلّدٌ بالعادة؛ لازلت جنينياً، عليّ القول، لم تطور بعد الإدراكات الجديدة الأكثر أهمية. تماماً كما لا نعي عادةً الحركة الدائرية والمائلة لهذا الكوكب الذي نضع، أنت وأنا، عليه أقدامنا. لمني إن شئت، ولكني أعرف أنك تفهمني، مع ذلك.
كان عليّ أن أخترق الحجاب، أن أنظر عبر ذلك القناع، لأعري قلب السديم –وجهي الحقيقي. لا بد من وجود طريقة. فكرت ملياً، وكوفئتُ بإلهامٍ عملي.
استنتجت أنه ما دام قناع الوجه الخارجي مكوناً من مزيج من العناصر المتنوعة، فإن قضيتي كانت في الإيقاع بتلك العناصر عبر الحصار البصري أو الإبطال الإدراكي، قاضياً عليها واحداً تلو الآخر، بادئاً بالأكثر بدائيةً وهمجية، والأقل منطقيةً. هكذا بدأت بالعنصر الحيواني.
هي حقيقة، بالطبع، أن كل واحد منا يشبه سَحنة حيوان معين. وأنا هنا لا أزيد على أن أذكر هذه الحقيقة؛ ففوق طاقتي أن أفصّل القول في أمورٍ من قبيل تناسخ الأرواح أو الأحياء الوراثية. ولكنني تعلمت بعض الأشياء، عرَضاً، من أستاذ مختص بأبحاث لافاتير*. ما رأيك في هذه التشابهات؟ رؤوس الخرفان ووجوه الأحصنة، مثلاً: نظرة عابرة على حشد من الناس، أو أخرى عن قرب على معارفك، ستكشف لك كماً هائلاً منها. ولكن شبيهي الأدنى على سلم التطور كان القط البري. لقد تأكدت من ذلك. وكان عليّ، بعد أن فرزت العناصر الحيوانية بدقة متناهية، أن أتعلم ألا أرى في المرآة الملامح التي تشبه تلك التي للهر العظيم. هكذا قذفت بنفسي في المهمة.
سامحني على عدم ذكر الطريقة أو الطرق التي استخدمتها مراوحاً بين التحليل الدقيق للغاية، وجهد التوليف* المضني. المراحل التحضيرية لوحدها كفيلة بتثبيط أي شخص أقل عزماً على القيام بما هو شاق. لا بد أنك، كأي رجل متعلم، ملمٌ باليوغا، وسبق لك ممارسة تقنياتها الأساسية على الأقل، بل إنني سمعت بمفكرين وفلاسفة ملحدين كانوا يمارسون “التمارين الروحية” لليسوعيين*، بغرض شحذ قدرتهم على التركيز، وتعميق خيالهم الخلاق. أياً يكن، لا أنكر أنني لجأت إلى بعض الطرق شديدة التجريبية: تدرجات الضوء، المصابيح الملونة، كريمات الشعر التي تلمع في الظلام. ورفضت وسيلة واحدة فقط، باعتبارها مبتذلة، إن لم تكن مخادعة: تقديم أشياء جديدة إلى المرايا وطلاءها العاكس. كانت المسألة متعلقة، أساساً، بتركيز بصري وإلهائه جزئياً في نفس الوقت، بحيث توجب علي أن أكون ماهراً: كان لزاماً علي أن أنظر دون أن أرى، أي دون أن أرى، في وجهي، ما تبقى من الحيوان. فهل نجحت؟
أنت تفهم ولا بد أنني كنت أتفحص واقعاً تجريبياً، لا فرضيةً متخيلة. وأؤكد لك أنني كنت أحقق تقدماً حقيقياً. شيئاً فشيئاً أظهر مجال الرؤية في المرآة فراغات في وجهي، بينما بهتت النتوءات حتى كادت تتضبب بالكامل. تابعت التقصي، مقرراً أن أتعامل أيضاً، في تلك المرحلة، مع الملامح الثانوية والوهمية الأخرى، كالعنصر الوراثي مثلاً، أي تلك التشابهات مع الآباء والأجداد، والتي تعتبر، هي الأخرى، رواسب تطورية في وجوهنا. آه يا صديقي، حتى الصوص بداخل البيضة لا يمكنه أن يكون ذاتوياً* بالكامل. ثم كان علي أن أطرح عني آثار الانفعالات المعدية، الظاهرة منها والمستترة؛ أي كل ما ينجم عن علة الضغوطات النفسية المؤقتة، بالإضافة إلى أدنى أثر لأفكار الأشخاص الآخرين ومقترحاتهم، تلك الأهواء العابرة، الضحلة، وغير ذات الصلة، والتي لا نهاية لها، ولا سابق مثال. سيتطلب مني الأمر أياماً لشرح الموضوع برمته، لذا آمل أن تكون قد حملت أقوالي على قيمتها الظاهرية.
وبينما رحت أغدو أكثر إتقاناً لعمليات الإقصاء، والتجريد، والاستنباط، كان مخططي البصري يتصدع بشقوقٍ خطيرة، كتلك التي للقرنبيط، أو عشبة كيس الراعي، حتى صار كالفسيفساء، قبل أن يمتلئ بالتجاويف فعلياً، مثل إسفنجة. هكذا أخذ الأمر يزداد غموضاً. في ذلك الوقت تقريباً، وبرغم الاهتمام الذي أوليته لصحتي، بدأت أعاني من نوبات الصداع. ألأنني بدأت أجبن حقيقةً؟ فلتسامحني على تغيير النغم* الذي أجدني مضطراً، عبره، إلى البوح باعتراف بشري كهذا، وعزف نغمة الضعف، عديم القيمة ومتعذر التفسير، هذه. ولكن فلتتذكر تيرنتيوس* على أي حال. آه، أجل، القدماء: لقد خطر بذهني أنهم كانوا يرمزون إلى الحكمة بربة متخيلة تحمل بيدها مرآةً ينضفر حولها ثعبان، فتخليت عن التجربة على الفور، ولشهور عدة رفضت النظر إلى نفسي في أي نوع من المرايا على الإطلاق.
ولكن ما أن تجرفنا الأيام في تعاقبها الرتيب حتى نُهدهَدَ إلى نسيان كل شيءٍ تقريباً. الزمن، إذا ما امتد طويلاً بما فيه الكفاية، وادعٌ دائماً. وربما حضني على ذلك، أيضاً، فضولٌ لا واعٍ. ذات يوم …. سامحني؛ لست ألتمس حيل الروائي إذ يتعمد تهويل كل موقف. سأقول ببساطة أنني نظرت في إحدى المرايا ولم أكن موجوداً. لم أر شيئاً. السطح الأملس الخاوي وحسب، مبعثراً الضوء كالشمس المكشوفة، أو الماء الأكثر نقاوة. ألم يكن لي ملامح، أو وجهٌ، البتة؟ لمست نفسي مراراً. ولكن لم يكن هناك سوى غير المرئي. الخيالي، دونما دليل منظور. ماذا كنت؛ المحدق الشفاف؟ أشحت بوجهي بشكل مباغت، مستثاراً بشدة، حد أنني بالكاد استطعت الوقوف، موشكاً على التعثر بالأريكة. المَلُكة التي توخيتها كانت تعمل بداخلي، تماماً بمفردها، بعد أن كنت قد توقفت عن تجاربي. عدتُ لمواجهة نفسي مجدداً. لا شيء. كنت مذعوراً: لم أستطع رؤية عينيّ. في العدم المصقول اللماع حتى الأبدي لم يكن منعكساً!
انتهى سعيي نحو وجه منقّىً بالتدريج، إلى اختزاله إلى لاوجهية* تامة. كانت النتيجة مرعبة: ألم يكن لي وجود مستقل، شخصي، داخلي؟ أيمكن أن أكون بلا روح؟ ألّا يكون ما كنت قد افترضت أنه ذاتي أكثر من وجودٍ حيواني، بضعة ملامح موروثة، غرائز منفلتة، طاقة متقدة غريبة، شبكة معقدة من المؤثرات، آيلة جميعها إلى الزوال؟ ذاك بالضبط ما قالته لي أشعة المرآة البراقة، ووجهها الخاوي –بجحود شديد. وهل الحال كذلك بالنسبة للجميع؟ لم نكن نختلف، إلا قليلاً، عن الأطفال، وبالتالي- لم تكن الدفعة الحيوية*سوى نزوات تشنجية متقطعة، صواعق برق تلتمع بين سرابات الأمل والذاكرة.
ولكنك تظن، ولا شك، أنني انحرفت عن المسار، خالطاً بين الطبيعي، والمفرط الطبيعية، والماورائي، بلا أدنى أثر للاستدلال المتوازن، أو أي عرض منطقي للحقائق –أدرك هذا الآن. ولا بد أنك تظن أن أياً مما قلته لم يكن متسقاً، ولا يثبت شيئاً، وأن كل كلمة قلتها، وإن كانت صحيحة، تبقى محض هوس مبتذل، وليد نفسه، وهماً عبثياً يتوقع من النفس أو الروح أن تنعكس على المرآة ….
أقر أنك محق. ولكنني، في واقع الأمر، قاصٌ سيء، وقد قدّمت الاستدلالات على الحقائق: الثور خلف العربة، والقرون بعد الثور. فلتسامحني. ولتدع نهاية القصة تلقي الضوء على ما تم سرده، حتى اللحظة، بشكل سيء، وبقدر كبير جداً من النزق.
إنها أحداث ذات طابع حميمي، ومختلف للغاية، وأنا أقصها عليك بناءً على تعهدك بالسرية. وبسبب خجلي؛ فإنني لا أستطيع سردها بالتفصيل. إنني أجتزؤها.
لم أتمكن من مواجهة نفسي ثانيةً إلا لاحقاً، بعد سنوات، وبعد أن مررت بفترة معاناة شديدة –وليس تماماً وجهاً لوجه. أظهرت المرآة ذاتي لي. أصغ إلي، وسأحاول أن أشرح لك. لبعض الوقت لم يكن باستطاعتي رؤية شيء. ثم، أخيراً، بعد مضي بعض الوقت، لمحت البدايات الواهنة لما يشبه ضوءً مربداً راح يبعث، شيئاً فشيئاً، بريقاً وإشعاعاً واهنين. هيجت أضعف تموجاته أحاسيسي. أو ربما كان هو جزءاً من أحاسيسي. أي ضوء واهن ذاك الذي ما أن يبثه وجهي، حتى يُوقَف قُبالته مباشرةً، منعكساً، مباغَتاً؟ استخلص لنفسك الاستنتاج المناسب، من فضلك.
هي أشياء لا ينبغي لنا ملاحظتها أبداً؛ ليس بعد حد معين على الأقل. أشياء اكتشفتها متأخراً جداً –أخيراً- في المرآة. عندها، إذا سمحت لي بهذه التفصيلة، شعرت بالحب –بمعنى أنني تعلمت التخلي، والسعادة بالتالي. و …. أجل، رأيت نفسي من جديد، وجهي؛ ليس هذا الذي ينسبه عقلك لي، ولكن ليس-وجهاً-بعدُ آخر، بالكاد تتضح معالمه، قليل البروز، مثل زهرة بحرية تتفتح في قاع المحيط…. لم يكن أكثر من وجه طفل صغير، بل وأقل من ذلك. ولا شيء أكثر. ألن تفهمني؟
أينبغي علي أن أخبرك، أم لا، بما أدركه، أكتشفه، استنبطه؟ أعلي ذلك؟ التفتيش عن الجلي؟ إنني أبحث بطريقة عكسية. أيمكن لعالمنا المفكك هذا أن يكون المستوى، أو تقاطع المستويات*، الذي فيه توضع الرتوش على أرواحنا؟
إن كان الأمر كذلك، فإن “الحياة” تجربة مهيبة محفوفة بالمخاطر، وتكنيكها –جزءٌ منه على الأقل- يتطلب أن نطّرح بوعي، نزيح، كل ما من شأنه أن يعيق نمو الروح، أو يطمرها بالأنقاض. ثم تأتي القفزة القاتلة*…. إنني أستخدم هذا التعبير لا لأن البهلوانيين الإيطاليين هم من بعث فن الشقلبة من جديد، ولكن لأن العبارات الشائعة، المبتذلة والمُمَاتة بكثرة الاستعمال، تتطلب لمسة وجَرْساً جديدين…. وتستمر القضية/الحُكم في هذا السؤال البسيط: “هل أنت موجودٌ الآن؟”.
أجل؟ ولكن ألا يعني ذلك تحطيم مفهومنا عن الحياة باعتبارها شأناً اعتباطياً بشكل ممتع، بلا علة أو غاية، عالماً من العبث؟ سأكتفي بهذا القدر، منتظراً رأيك في هذه المسائل بكامل الاحترام. وإني لأرحب بأي اعتراضات تود إبداءها لي، أنا، خادمك المطيع، صديقٌ تعرفت إليه مؤخراً، إنما رفيقٌ في حب العلم، بنجاحاته التائهة، وعثراته المترنحة. أجل؟
*جواو غيماريس روزا: من أعلام الأدب البرازيلي في الرواية والقصة القصيرة (1967-1908).
*نرسيس: أسطورة يونانية هي مصدر مصطلح العقدة النرجسية المعروف في علم النفس.
*سحر المحاكاة/السحر التعاطفي: الاعتقاد بإمكانية إيذاء شخص ما عبر إيقاع الضرر بدمية أو تمثال يحاكيه.
*التوليف synthesis: ثالثة المراحل في جدلية الفيلسوف الألماني هيجل، وفيها يتم التوفيق بين الأطروحة ونقيضها لتكوين أطروحة جديدة.
*اليسوعية: طائفة مسيحية تأسست في القرن السادس عشر.
*جوهان كاسبر لافاتير: شاعر سويسري من القرن الثامن عشر كان مهتماً بعلم الفراسة.
*الذاتوية أو السولبسية: مقولة فلسفية قائمة على الاعتقاد بانتفاء وجود أي شيء خارج عقل الإنسان.
*تغيير النغم، أو التنغيم: تعبير موسيقي يعني الانتقال من مقام لآخر.
*تيرنتيوس: كاتب مسرحي روماني (القرن الثاني قبل الميلاد).
*لاوجهية facelessness: حالة غياب الوجه. والكلمة تعني أيضاً المجهولية (كون الشيء مجهول الهوية anonymity).
*الدفعة الحيوية: élan vital مفهوم فلسفي لهنري برغسون يفسر التنظيم الذاتي والتخلق العفوي.
*تقاطع المستويات: في الهندسة الوصفية يعني تقاطع المستويات التقاءها في أحد الخطوط.
*القفزة القاتلة: salto mortale بالإيطالية في الأصل.