سابرينا أوانغ*
ترجمة: فيصل الحضرمي
أطفأ الكمبيوتر وأعاد تشغيله ست مرات، ثم مضى ليستحم للمرة الأولى منذ أسبوع. بعدها نزل إلى الشارع ليبتاع لنفسه حساء نودلز بارداً وعلبة سجائر. عندها فقط جرؤ على تصديق ما رآه أمام عينيه: بادرت فتاة –أخيراً- بالخطوة الأولى، وبعثت إليه برسالة على موقع التعارف. يا لها من مفاجأة سارة –رغم أن تفاجأه كان أكبر من سروره.
لم يكن مظهره مصمماً ليجتذب الجنس الآخر. كان دائماً على ذلك النحو، ولم يكن أحدٌ أكثر منه إدراكاً لتلك الحقيقة. لا يتوقع العالم من الرجال، مقارنةً بالنساء، الكثير في هذا المجال – حيث تقسّم النساء دون شفقة إلى “صالحات للزواج” وعوانس- ولكنه، مثل أغلب أبناء جنسه، سيموت من الخجل إذا ما اضطر إلى الإقرار بحجم خيبة الأمل التي يسببها له شكله. غير أنه كلما رفضت امرأةٌ تذاكر السينما التي عرضها عليها، أو لاحظ نادلة تنظر إليه شزراً، أو باغته انعكاس هيئته في نافذة المترو؛ كان يسمع صوتاً خافتاً، ولكن قوياً: لو كان بإمكانك أن تبدو مثل كينو ريفز*، فمن الذي سيختار أن يكون مستر بين إذن*؟
كان محتماً أن يصوغ هذا الوضع البائس شخصيته –كان يحيا حياة انسحاب، مشرنقاً نفسه. ففي حصة مادة الأحياء في المرحلة الثانوية، حين أعطوهم درساً عن زراعة مندل للبازلاء واكتشافه قوانين الوراثة، ميز نفسه في إشراقة ذهن خاطفة: كان مركباً من فم جده الصغير بشكل مرعب، أذني جدته المدببتين، كسل وشعر جده الآخر المجعد بطبيعته، ميل جدته الأخرى إلى البدانة، أنف السكارى الذي لأبيه وردّات فعله البطيئة، قامة أمه –كانت أقصر من معظم تلامذة المدارس الإعدادية- وعينيها المتهدلتين، شامة عمه (كان هذا أكثر ما يزعجه –هل سمع أحدٌ بشامة موروثة؟)، وكميات كبيرة من حب الشباب، فضلاً عن وصمة البرجوازية الصغيرة* التي يشتركون فيها جميعاً.
مكتشفاً أنه كان توليفة عيوب أفراد عائلته -الأمر الذي بدا أقرب للسخف منه إلى المأساوية- قرر أن يتوقف عن مقاومة قدره. وعندما بلغوا نظرية داروين في التطور صار أكثر قلقاً، وقرر أن الطريقة الوحيدة لتفادي الاصطدام بالانتخاب الطبيعي هي عدم لفت الانتباه، تماماً مثلما يطلق الآباء على أبناءهم اسم “كلب” أو “ثور” لتجنب لفت انتباه الأرواح الشريرة.
وهكذا، بعناد كلب أو ثور، واصل حياته. كان عمره واحداً وثلاثين سنة، يعيش وحيداً، ويعمل نادلاً في مطعم للوجبات السريعة. وكان بديناً؛ بشعرٍ مجعدٍ بشكل غير معتاد، وحظ عاثر بطريقة مضحكة، وندوب خلّفها حب الشباب (كان الحب قد توقف عن الظهور على الأقل)، وعدم نضج ناجم عن ضعف التفاعل الاجتماعي، وعادات صحية كانت من السوء بحيث اضطر مدير المطعم لمحادثته بشأنها مراراً –ولكن ما عاد شيءٌ يجرح مشاعره. كانت يداه ترتعشان حين يقابل زبونة جميلة (عندما ذاع الخبر تهافتت الفتيات اللواتي يعملن بالجوار إلى المطعم ليرين إن كن جميلات بما يكفي لاستثارة رعشة يديه). كل ليلة كانت أحلامه تتمحور حول التحول إلى شخص مختلف تماماً. أدخل بياناته في موقع للتعارف، غير أنه انتظر ثلاثمائة وخمسة أيام قبل أن تصله الرسالة الأولى.
قالت الفتاة أنها لم تكتب إليه لسبب معين. شيءٌ ما يتعلق بتعريفه بنفسه -الذي لم يتجاوز المائة كلمة في الحقيقة- جعلها تشعر أنهما سينسجمان معاً. ارتعد وهو يقرأ الرسالة، ثم أمضى ثلاث ساعات يؤلف رداً، ماحياً قدر ما كتب. منذ تلك اللحظة سيبدئان تبادلاً سريعاً للرسائل عبر البريد الإلكتروني.
كان يستيقظ كل صباح ليجد رسالة منها –لم تكن طويلة ولا قصيرة، ربما خمسمائة كلمة، تجيب في جزئها الأكبر على استفساراته التي طرحها الليلة الفائتة، مضيفةً لحديثهما السابق، ومبديةً قدراً معقولاً من الفضول حوله. لم يكن هناك شيء مميز في انتقاءها للكلمات، وأحياناً كانت ترتكب أخطاءً نحوية يستطيع حتى هو تمييزها، ولكنها كانت تتمتع بذكاء دافئ لم يكن مصدر تهديد على الإطلاق. في المجمل، بدت فتاة بسيطة للغاية، وذات تعليم متوسط. كان يقرأ كل رسالة ثلاث إلى خمس مرات، قبل أن يتوجه إلى المطعم ويتصرف بخراقة طيلة ساعات عمله، لأن ذهنه يكون منشغلاً تماماً بتأليف رسالةٍ لها. وفور انتهاء نوبة عمله يسرع إلى شقته ليرسل إليها الكلمات الألف التي كلفته يوماً كاملاً من الأخطاء في العمل. ثم يأتي الانتظار الطويل حتى الصباح التالي. لم يكن ذلك نوعاً ممتعاً من الترقب، ولكن كان لديه مئات عديدة من الأسباب التي تصده عن اقتراح وسائل أخرى للتواصل.
ما جعله يتعلق بها كثيراً، بعد مضي شهر واحد فقط، لم يكن حقيقة أنه لم يسبق له معرفة ولو فتاةً واحدة من خارج عائلته؛ بل لأن تلك الفتاة بالأحرى، بالنسبة له، كانت تمثل الكمال المطلق. ولم يكن يقصد “بالكمال” أي شيءٍ من قبيل الشعر الطويل أو العينين الواسعتين أو القوام الممشوق، رغم أنه كان لديه، بطبيعة الحال، تصوره الشخصي عن الشكل المثالي: ضئيلة الجسد، شاحبة البشرة، وناعمة كآيسكريم الفانيلا. ولكن الشيء الأهم كان تلك الدراما الداخلية المتراكمة عبر سنين عديدة من الوحدة. على سبيل المثال، ذكرت أنها تعشق الكرفس والعنب الأحمر والسمك والفاصوليا، ولكنها لم تكن تحب اللحم والروبيان، ما يعني أنه لو قدر لهما أن يأكلا معاً فسيكون بإمكان كل منهما القضاء على طبق الآخر. كانت تحب أيضاً التبضع بعد منتصف الليل في متاجر الأربع والعشرين ساعة، متفحصةً كل غرض بعناية قبل أن تعيده إلى مكانه. وكانت تفضل مشاهدة الأفلام على أقراص الدي في دي بدل الذهاب إلى السينما (رغم أنها لم تكن لتستأجر واحداً من أفلام الآرت هاوس* تلك، والتي تسجل على أقراص الدي في دي منذ البداية)، وكانت وحيدة أبويها، وكانت تكره حصص الحرف اليدوية عندما كانت فتاة صغيرة، وكانت معتادة على النظر إلى السماء حين تمشي في الشارع، وكانت تتحدث كثيراً عندما تكون متوترة، وكانت تلتقط عدوى الزكام بسهولة، وكانت تعالج ضغوطات الحياة بتغذية مشاعر الغيرة والحسد، وكانت تجرب مشروباً غازياً مختلفاً في كل زيارة لها إلى البقالة…
كان الجزء الأكبر من رسائلها اليومية مجرد أحاديث عابرة، ولكنها كانت تكشف أيضاً تفاصيلَ أكثر مثل تلك التي بالأعلى، تفاصيل لم تكن لتخطر له على بال، ولكنها كانت تبدو واقعية تماماً –كانت تتوافق مع أسرار قلبه الدفينة، غير أنه لم يكن ليستطيع التعبير عنها بالكلمات. في الأثناء، انتُزِعت الأحلام من نومه فجأةً. اعتاد أن يحلم طوال الوقت بالجمال والسعادة الغائبين عن حياته الواقعية. لم يكن هناك شيءٌ الآن –لا كنوز مخفية، لا ترميزات، لا دنس ولا جمال، لا شيء سوى خواءٍ أسود.
كان أمراً غير منطقي من جميع النواحي، وكان حرياً بالأمر أن يثير ريبته، ولكنه ظن أن الأحلام الجميلة لم تختف في الحقيقة، وإنما تبلورت، عوضاً عن ذلك، لتصير ذلك اللقاء الذي جمعه بالمرأة التي كان مقدراً له أن يشاطرها حياته، اللقاء الذي سيكون أكثر واقعية عما قريب. هكذا، في طريقه الخالي من الكلمات إلى ومن العمل كل يوم، كان يفكر في الفتاة التي لم يلتق بها بعد -ولكنه كان متعلقاً بها- وتحيا حياة موازية لحياته، شاعراً بشيء من البهجة التي كانت ملآى وخاوية في ذات الوقت.
لم يتحدثا أبداً عن الالتقاء وجهاً لوجه. كان انجذاب كل منهما إلى الآخر جلياً للغاية، لذا لم يكن قلقاً جداً حيال ذلك. ولكن بعد عدة أيام مشمسة وماطرة، وبعد لحظات تواصل عديدة، وبعد الكثير من المراسلات العذبة، لم تقترح حتى أن يتصل بها بالهاتف من أجل محادثة حقيقية.
هذا لا يعني أنه كان سيجرؤ على التحدث إليها وجهاً لوجه إذا ما حدث أن اجتمعا. إلا أنه كان هناك شيءٌ ما محبطٌ في هذا النوع من الحياة؛ أن تكون بمفردك وطرفاً في علاقة في الوقت نفسه، لا وحيداً ولا مشبع الرغبات. وضعٌ قاده إلى تكهناتٍ لا نهاية لها. ورغم تفكره الشديد في الأمر، كان من الصعب عليه أن يستقر على واحد من الاحتمالات التالية:
ربما لم يكن يعيبها شيءٌ على الإطلاق، وكل ما هنالك أنها كانت تنتظر منه هو أن يقوم بالخطوة التالية –ولكن كان عسيراً تخيل امرأة يمكنها أن تنتظر، بصبر، شريكاً مثله.
وربما كانت متزوجة أصلاً، ولها ابنةً عمرها ثلاثة أعوام وابناً أكمل عامه الأول للتو، ومتورطةً بزوج نادراً ما يستحم. وبسبب حاجتها لأن تملأ أوقات الفراغ التي تتوسط فترات الرضاعة، وبسبب كرهها لحياتها، اختلقت عشرات الشخصيات، مالئةً حياة عشرات الأشخاص التعساء بالإحباط.
وربما لم تكن شخصاً واحداً، وإنما زوجين ضجرين ينفذان مقلباً متقناً لجعل شخص غريب يبدو أحمقاً.
وربما في يومٍ ما ستبعث إليه برسالة تسأله فيها تحويل مبلغ من المال إلى أحد الحسابات البنكية.
وربما كانت –هذا أسوء السيناريوهات، قال لنفسه بلا خجل- مثله تماماً، وآخرُ شخصٍ ترغب في النظر إليه في العالم هو هي نفسها.
مستغرقاً في تأمل هذه النقطة، قرر أنه ينبغي عليه إنهاء العلاقة، أو نقلها للمرحلة القادمة. كان محظوظاً بما فيه الكفاية أن الواقع لم يحطمه بعد، وبدا من العبث أن يهرع إلى ذلك بمحض إرادته. علاوةً على ذلك -فكر ملياً- فإن تلك الفتاة، ضئيلة القوام والجذابة، لم توجد، غالباً، إلا لتحبه. إذا كان هناك أشخاص يربحون جوائز اليانصيب وآخرون ينجون من ضربات الصواعق، فلماذا لا تحدث له معجزةٌ هو الآخر بعد معاناة سنوات طويلة؟
***
ربما بسبب عادته طويلة العهد في تفادي الأسطح العاكسة، كان آخر شخص يلاحظ التحول الغامض.
كان أول من لاحظ ذلك مجموعة من طالبات إحدى المدارس الثانوية. كن يأتين كل مساء إلى مطعم الوجبات السريعة لإنجاز فروضهن المدرسية، فيغرقن طاولة أو اثنتين بالكتب والدفاتر. ولكن أعينهن، الطافحة بالبريق المقموع، لم تكن على واجباتهن على الإطلاق، وإنما كانت معلقة به وهو يعمل خلف صندوق المحاسبة، أو يقلّب قرص برغر، أو يمسح الأرض، ما جعله يشعر بالخجل الشديد، ويرتكب أخطاءً أكثر من المعتاد، ولكن لم يكن هناك طريقة لإيقاف ذلك.
بعد ذلك أخذ زملاؤه في العمل يتهامسون من وراء ظهره، غير عابئين بكتمان أحاديثهم التي لم تكن هي كذلك عالية الصوت بما يكفي لتُسمع بوضوح. كان يعرف أنهم مولعون بتناقل الشائعات حول الآخرين، ولكن لم يدر بخلده أنه سيكون موضوع ثرثرتهم يوماً ما.
ثم أتت القشة الأخيرة –أمه. ذات صباح، خطر ببالها فجأةً موضوعٌ كانت بحاجةٍ لأن تناقشه معه. أسرعت إلى حيث يسكن، وحين فتح الباب تسمرت فاغرة الفم. “آسفة، لا بد أنني أخطأت العنوان”.
“أمي؟ ماذا تقولين؟”
كانت مصدومة لدرجة أنها نست الغرض من قدومها. بعد أن تمعنته طويلاً قالت أخيراً: “كيف صرت نحيفاً الآن؟”.
كان هذا كل شيء. بعد أن غادرت أمه، وتعابير الذهول ما تزال باديةً على وجهها، ذهب إلى الحمام وظل يحدق في المرآة مدة نصف ساعة. بالكاد استطاع التعرف على نفسه. ولكنه شعر بالخوف فجأةً. كان الأمر شبيهاً بتلك الحكاية الخرافية عن الإسكافي والجن –تساءل إن كان هناك من يتسلل إلى غرفته بعد منتصف الليل ويغادر عند الفجر، مشتغلاً يوماً بعد يوم على جسده النائم، حاشياً وناحتاً، محولاً إياه إلى فتى رائع الجمال، بجسد ممشوق، وقسمات وجه صافية. كانت بشرته تشع ضوءً من نوعٍ ما، وكان طوله قد زاد ثمانية سنتيمترات كاملة، كما تقلصت الشامة السوداء التي بجانب حاجبه إلى ندبة باهتة تدفعك للاعتقاد بأنه ربما كان قد تلقى لكمة في ذلك الموضع. لا عجب إذن أن أمه، التي لم تره منذ أشهر، أصيبت بفقدان ذاكرة مؤقت بتأثير الصدمة. ولا عجب أيضاً أن زملاءه كانوا يطلقون الشائعات حول اتباعه حمية غذائية خاصة، وخضوعه لنوعٍ من أنواع الميك أوفر. أما بالنسبة لفتيات المدرسة الثانوية، فإنه من الطبيعي أن أولئك الذين لم يكونوا مهتمين بهيئته السابقة، لا يستطيعون الآن الارتواء من هيئته الجديدة.
كان يعلم أن الفضل في كل ذلك يعود إلى الفتاة وحدها. تغير عالمه لحظة ظهورها. مثل يي غونغ الذي كان يدعي بأنه متيم بالتنانين، ولكنه كان يفر مذعوراً حين يرى أحدها*، مكث في المنزل مرعوباً ثلاثة أيام، قبل أن يخرج للتجول بخطىً مهزوزة، محاولاً التأقلم مع ذلك الحدث العجيب -مثل فائز باليانصيب في أول ظهور له في العلن- غير واثق من كيفية التصرف، ومضطراً لأن يعيد تقويم مظهره في كل واجهة محل يمر بها. غير أنه راح يستطيب الأمر شيئاً فشيئاً. أصبح الآن جريئاً بما يكفي للأخذ بنصائح الموضة التي تسديها إليه البائعات -وهن يقهقهن، غير عابئاتٍ بالزبائن الآخرين- بأصوات رقيقة للغاية كما لو كن يبحن بأسرارهن.
رجونه أن يقطع الشارع ويطلب من كيني، في الطابق الثاني، أن يقص له شعره. خرج من المحل بأكياس ممتلئة بهذا وذاك، فضلاً عن إيصالين اثنين خُربشت على ظهريهما، خِفيةً، أرقام هواتف. الجمال نوعٌ من أنواع الطبقات، والجسد سلاحٌ في الصراع الطبقي، وبينما كان يسير في المدينة مواجهاً حملقةً تلو أخرى، أيقن أنه أصبح فاتحاً.
ولكن كان هناك سؤال يشغل باله: الآن وقد صار مظهره لائقاً لمقابلتها؛ هل ستأتي؟
***
كل واحدة من تفاصيل ذلك المساء ستبقى محفورة في ذاكرته إلى الأبد. رجع إلى شقته حوالى الثامنة والنصف، حاملاً ملابسه الجديدة. كان قلقه شديداً. في التاسعة تناول العشاء الذي اشتراه من كشكٍ بالطريق، ثم فتح صندوقه البريدي. كل شيء كان كالمعتاد، ولكن متلقي الرسائل كان شخصاً مختلفاً تماماً.
فكر أنه ربما كانت الأيام الثلاثة الأخيرة التي قضاها مختبئاً قد دفعت الفتاة، في واحدة من آلاف الغرف المضاءة عبر المدينة، لأن تصبح قلقة ونكدية. لسببٍ ما منحته هذه الفكرة انتشاءً أكثر قوة من أي وقت مضى. أخيراً تنازل عن التبريرات التي أنفق كامل المساء في تأليفها لإقناعها بملاقاته، وأرسل لها سطرين لا أكثر: “هل ترغبين في رؤية فيلم نهاية هذا الأسبوع؟ على حسابي.” ثم سجّل خروجه وأطفأ المصباح وانسل تحت بطانيته. نام فور أن مس السرير، ومضى مباشرةً إلى حلمه الأول منذ مدة طويلة. حلم بالفتاة.
لم يتوقف منظور الحلم عن التغير. أحياناً كان يشاهد نفسه والفتاة من الخارج، جسدان رائعان متشابكان. وأحياناً كان يرى نفسه مرة أخرى في قلب جماعٍ مضطرم، بينما بشرة الفتاة بلون آيسكريم الفانيلا الشفيف الباهت. كانت شفتاها تحطان برهافة على نهايات أعصابه. وفي لحظة الذروة عض كتفها بقسوة، لاإرادياً . لم يكن هناك دم، مجرد طعم طري ولكن مقرمش في فمه، مذاق أنواع مختلفة من الفاكهة الطازجة. الآن، بعد أن أُشبعت رغباته الجسدية، كانت شهيته للطعام أكبر من أي وقت آخر. أخذ يزدرد ويلوك لقماً ضخمة من جسد الفتاة إلى أن التهمها بالكامل. عندها وحسب أحس أن هناك خطأً ما. أصحيحٌ أن الآخرين ليسوا طعاماً؟
تشجنت ساقاه وارتدتا عن الأرض. نظر إلى الأعلى ليجد العقارب المضيئة لساعة الحائط تشير إلى الثالثة وسبع وأربعين دقيقة. كان أمام الكمبيوتر، وليس في السرير، وكانت الشاشة أمامه تضيء بشراسة في الظلام. أدرك بصعوبة أنه كان يحلم، وبذل جهداً ليجر نفسه إلى الواقع مجدداً -بعيداً عن الجسد الناعم الذي كأنما كان ما يزال حاضراً- إلى حيث الكمبيوتر الذي كان يتذكر بوضوح أنه قام بإطفائه قبل أن يخلد إلى النوم.
كانت شاشة الكمبيوتر تعرض صفحة إنترنت مفتوحةً على صندوق الرسائل الواردة لبريد الفتاة الإلكتروني، والممتلئ برسائله جميعها وقد اصطفت في صفوف متتابعة. وفي صفحة أخرى، كان ثمة رد على دعوته. ولكنه كان رداً مبتوراً:
“قلتَ فيـ.. ” كما لو كان كاتب الرد قد ترك مكانه لبرهة، ربما ليستخدم الحمام.
ولكن ذلك الشخص لم يكن قد ذهب إلى الحمام بالطبع، وإنما كان قد غط في نومٍ استيقظ منه للتو. ما يزال اثنان من أصابعه يستريحان فوق حرفي “اللام” و”الميم”، وظلا بهذه الكيفية بينما راح هو يحدق بانشداه، ساكناً تماماً، إلى أن طلع الصباح، وبدأ يسمع صخب حركة المرور في الخارج. اندفع إلى الحمام في الوقت المناسب ليتقيأ عشاء البارحة. كان هناك بقايا سمك بالخل وجزر مقلي وذرة حلوة مع فاصوليا خضراء ورز وبيض. وبرؤية كل واحد من تلك الأطعمة بوضوح تام، أدرك بغتةً أنه كان يؤكل مؤخراً مختلف أنواع الطعام التي لم يسبق له لمسها مطلقاً، والتي كانت “هي” تحبها.
***
لم تكن لديه أدنى فكرة ما إذا كان يعاني من اضطراب تعدد الشخصيات أو المشي أثناء النوم أو أي مرض آخر، ولكنه كان متيقناً من شيء واحد: لم يكن ضعف تركيزه في العمل، وهزال جسده، بسبب لوعة الحب، بل بسبب الحرمان من النوم. بطريقة أو بأخرى، كان يستيقظ كل ليلة ويمشي باتجاه غرفة الجلوس، ويشغل كمبيوتره، ويفتح حساباً بهوية أخرى في الهوتميل وفي موقع التعارف، ويكتب لنفسه رسالة يقول فيها: “أظن أننا سننسجم معاً”، ثم يعود إلى سريره، ويستيقظ في اليوم التالي دون أن يتذكر شيئاً من ذلك، طوال مائة وثلاثة عشر يوماً. تقلصت ساعات نومه السبع إلى أربع ساعات متقطعة –كيف إذن يمكن لجسده أن يحصل على كفايته من الراحة؟
بعد أن تحقق من حساب الهوتميل ذاك، ومن سجلات كمبيوتره الداخلية، ظل عاجزاً عن فهم السبب الذي دفعه لفعل هذا بنفسه. ربما كان احتياجه للحب كبيراً جداً ببساطة، أو العكس–ربما كان كرهه لنفسه كبيراً جداً. وقد يكون في حمضه النووي شيءٌ يحوي مرضاً نفسياً معيناً. بعض الناس ربحوا اليانصيب، وآخرون ضربتهم الصاعقة، أما هو فكانت لديه قابلية نسبتها مائة بالمائة لوراثة الجينات المعيبة.
أياً كان السبب، فإنه لم يكن ليغير حقيقة أنه سيظل وحيداً دائماً. بعد أيام قليلة بدأ يعود لمظهره الأصلي، مثل بالون ينكمش بعد حفلة عائلية: فمه الصغير بصورة غير طبيعية، أذناه المدببتان، تجعيدات شعره العنيدة، بدانته، أنف السكارى، قامته القصيرة وعيناه المتهدلتان؛ جميعها أكدت حضورها من جديد. بل ان الشامة السوداء التي بجانب حاجبه استغلت الفرصة لتنتأ أكثر قليلاً، مبرعمةً شعيرات سوداء سلكية. التغيير الحقيقي الوحيد في حياته نجم عن غيابه، فبسبب ذلك اليوم أرسل له مسئوله في المطعم رسالة نصية يخبره فيها ألا يكلف نفسه عناء المجيء إلى العمل. عثر على وظيفة أخرى في متجر بقالة. كما باع كمبيوتره، ليس لأنه جعله حزيناً، أو خائفاً من النظر إليه؛ فقد استعاد طبيعته الأصلية على أي حال: قدرة الكلب أو الثور على التكيف. هو لم يرد ،باختصار، أن يتيح لنفسه فرصة تدمير كل شيء من جديد في المستقبل.
وبعدها لم يكن هناك شيء على الإطلاق. بدأ يحلم من جديد، ولكن أحلامه كانت تدور دائماً حول الوقائع اليومية: تناول حساء نودلز مملح بزيادة مع خضروات مخللة ولحم؛ الهرولة بيأس بحثاً عن مرحاض؛ الانغماس في لعبة فيديو وعدم القدرة على الفوز والانتقال إلى المستوى التالي. وكانت هناك أوقات يصحو فيها فجراً، في صباحات الصيف الرطبة عادةً، مستلقياً في سريره يشم رائحة جسده التي ظلت تراوح مكانها خلال الليل، ومتذكراً جسد الفتاة في ذلك الحلم البهيج، ناعمةً ككريمة الجبن، ولم يستطع منع نفسه من التخمين: تلك الليلة، في الثالثة وسبع وأربعين دقيقة صباحاً، ماذا كان في نيتها أن تقول له في تلك الرسالة غير المكتملة إلى الأبد؟
ولكن الفكرة غمرته بالمرارة. لم يكن بيده شيءٌ سوى التنهد طويلاً وعالياً. جر نفسه خارج السرير، وارتدى القميص والسروال اللذين ارتداهما في اليوم السابق، جاهزاً لأن يبدأ نوبته في متجر البقالة حيث سيكون فطوره خبزاً وحليباً منتهيي الصلاحية. أخذ مفاتيحه، وتحسس النقود المعدنية في جيبه، ثم خرج من الشقة ناسياً تماماً أن ذلك اليوم كان يوم ميلاده الثاني والثلاثين. بالنسبة له، كان يوماً آخر لا تتحقق فيه أحلامه.
* سابرينا أوانغ: كاتبة صينية.
* كينو ريفز: ممثل كندي.
* مستر بين: شخصية كوميدية شهيرة يؤديها الممثل روان أتكنسون.
* البرجوازية الصغيرة: طبقة اجتماعية تقع بين طبقة العمال وطبقة البرجوازية وتتألف من الفلاحين وصغار التجار.
* أفلام الآرت هاوس: أفلام مستقلة تشتغل على الجماليات الفنية والتجريب، ولا تكترث للذائقة العامة.
* أسطورة صينية.
فيصل الحضرمي
2019/2/20