الوليد الكندي
قبل أيام حدث لغطٌ في الساحة الثقافية العمانية بسبب تزامن استضافة مفكر و عالم أديان كبير مع تصريحه العنصري ضد المحجبات، فشهدت الساحة كتابات كثيرة و ردوداً بين مدافع و داعٍ إلى فصل الجهد الفكري عن شخص المفكر، و مهاجمٍ قادحٍ في شخص الرجل، و ما لفت انتباهي في غمرة تلك المعمعة هو غرابة الحوار بين المنهج العلمي و المنهج العقدي، ذلك الحوار المتكرر دائماً و أبداً و الذي قَلَّ أن يكونَ قائماً على أرضية مشتركة أو أن يكون التفاهم حاضراً بين طرفيه. أذكر قبل وقت قريب انتشار رسالة في وسائل التواصل مفادها بأن (الكثيرين يخطئون في الاعتقاد بأن المطر يسقط بسببب السحب التي تتشكل عند تكثف البخار حول الجزيئات في طبقات الجو العليا، و أن الصحيح هو ما أعطاه الله للملك ميكائيل من قدرة على إنزال المطر)، إن هذه الرسالة بكل سذاجتها و بساطتها تعبر أدق تعبير عن مأزق الحوار بين العلم الخالص و الإيمان الخالص، و قد حدث ما يشبه ذلك في الحرب الكلامية حول المفكر المذكور. فكتب أحدهم مقالة بعنوان “علم بالأديان و جهل بالإسلام”، في مغالطة صريحة و خلط عجيب بين شيئين غير متجانسين و هو علامة دالة على جهل واضح بالفرق بين المنهج العلمي الذي يسير عليه علم مقارنة الأديان من جهة، و المنهج الإيماني التسليمي الذي يقوم عليه الإسلام كدين من جهة أخرى ، و كتب آخر يقول “المؤمن الحق يعتز بايمانه و يحرص على مبادئه عقيدته من أن يدنسها أصحاب الشبهات الفكرية و الإلحادية”، و كأن هذه المقولة هي امتداد لما حذّر منه علماء الدين الأقدمون من خطر القراءة للفلاسفة و المبتدعة و الزنادقة.
تكمن المشكلة إذن في الجهل بحقيقة مهمة تتمثل في أن عناصر الدين و مسلماته لا تتبع أسس المنهج العلمي، فعلم الأديان كمثال على المنهج العلمي يقوم على المقارنة بين جميع الأديان البشرية القائمة و المندثرة لاستخلاص العوامل المشتركة بينها ثم وضع النظريات حول كيفية نشوئها و تطورها و تداخلها بعضها مع بعض، و مثل هذا المنهج لا يمكن أن تتم محاورته بعلم العقيدة أو اللاهوت الخاص بدين معين، فالعقيدة تستمد صدقيتها من الإيمان بالوحي و من التواضع و الاتفاق على فهم واحد واضح و معين لنصوص ذلكم الوحي، لذلك فإن أقصى ما يمكن للمدارس العقدية و الكلامية أن تبلغه هو أن تتحاور بعضها مع بعض حول تعددية الأفهام لمدلولات ألفاظ الوحي، منطلقة من علوم اللغة بشكل أساسي – علوم لغة الوحي و ليس علم اللسانيات الذي يتبع المنهج العلمي- مع تأثرها بمجمل التجربة الدينية للنوع البشري، و هي التجربة التي يحاول علم الأديان مقاربتها و تلمس معالمها.
انطلاقاً من التوضيح الآنف الذكر للفرق بين المنهج العلمي و المنهج الديني – أو الطرق الدينية بمعنى أكثر دقة- يمكننا إدراك المعضلة التي تواجه الحوار القائم بين الفريقين بصورةٍ أكثر عمومية، فالنتائج العلمية يتفق لها أحياناً أن تنسجم مع المعرفة الدينية مثلما يتفق لها أن تتعارض معها في أحيانٍ أخرى، و ذلك مثلما حدث مع الحسابات الرياضية و الفيزيائية التي نفت إمكانية امتلاء المحيط الكروي للأرض بالماء بما يكفي لإغراقها، و هو ما يتعارض مع فكرة الطوفان العالمي بينما ينسجم مع فرضية الطوفان في حيز جغرافي ضيق و محدود، كذلك حدث مثل ذلك التعارض بين عمر الأرض الجيولوجي في مقابل عمرها حسب التقويم التوراتي، و قل مثل ذلك بخصوص غياب شخصيات القصص الديني عن علم التاريخ الذي يدرس حضارات الرافدين و وادي النيل، و كذلك ما يصفه علم الأديان من تكرر تاريخي لقصص دينية مثل التجسد الإلهي و طفل النهر، أو طقوس دينية كالاغتسال و التعميد و الطواف.
إن اللجوء إلى القول بالمعجزات أو خرق العادة – التي صحت بالخبر لا بالمشاهدة- كثيراً ما يكون نهاية النقاش بين المنهجين، و هو ما يثبت أن الحوار ببن كل من المنهج العلمي و المنهج الديني، ليس حواراً بين ندّين أو غريمين بل هو استعراض لوجهتي نظر تتبنيان قواعد إبستمولوجية مختلفة، خاصةً عند الحديث عن المنهج الديني التقليدي المحافظ و الذي لم يأخذ بعد بمناهج التجديد الديني المتصالحة أكثر مع المنهج العلمي.