بدر بن سالم العبري
بعد تناول الغداء، وأخذ راحة، كانت الجلسة الثّانية من المؤتمر في اليوم الأول، وبدأت مع السّيد مريوان النّقشبنديّ عن تجربة كوردستان العراق في التّنوع والحريات الدّينيّة: أسباب النّجاح والتّحديات، والنّقشبنديّ ناشط إعلاميّ، باحث في مجال التّعايش السّلميّ، والحريات الدّينيّة، وهو مدير العلاقات والتّعايش في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة بإقليم كردستان.
وأقليم كردستان العراق يقع في شمال العراق، نشأ – كما في الموسوعة العالميّة ويكبيديا – في مارس 1970م عقب سنوات من القتال والمعارك، ويتمتع بحكم ديمقراطيّ برلمانيّ، وله مائة وأحد عشر مقعدا.
في البداية تحدّث النّقشبنديّ عن الأكراد وانتشارهم في سوريا والعراق وإيران وتركيا، أغلبهم مسلمون سنة يغلب عليهم الطّرق الصّوفيّة، وتعيش معهم بعض الأطياف كاليزيديين والمسيحيين، وهم متسامحون ومتعايشون، وضرب ثلاث أمثلة من نماذج التّعايش بينهم، الأولى سمع عنها، والثّانية والثّالثة عايشها.
أمّا الأولى فتعود إلى عام 1932م، حيث كان يوجد العديد من اليهود في كردستان العراق، وهم ممّن حافظوا على التّقاليد اليهوديّة بعد السّبيّ البابليّ، وعاشوا حياة قاسية على التّجارة والرّعي والزّراعة، ففي مدينة حلبجة ضغطت الحكومة آنذاك بعدم التّعامل مع اليهود، وفي أحد أيام 1932م حاول أغنياؤهم من اليهود عمل معبدا (كنيست) كبيرا لهم، ولضغوط من الحكومة لم يعطوا مواد البناء، فذهبوا يشتكون حينها إلى قطب النّقشبنديّة إحسان النّقشبنديّ، فقام القطب بنفسه بتقطيع الأخشاب وأعطاهم إياه، ولتأثيره في المجتمع رضخ النّاس، وبني المعبد رغم اعتراضات الحكومة، وقد كان اليهود متعايشين مع السّكان حتى قيام إسرائيل [الكيان المحتل]، فخرج الكثير بأنفسهم ولم يجبرهم أحد على الخروج.
والنّموذج الثّاني يعود إلى عام 1988م لما كنت في المرحلة الإعداديّة في مدينة حلبجة، حيث كان يوجد قصف بين العراق وإيران، بسبب استيلاء الإيرانيين عليها، وأثناء وجود الجنود العراقيين فيها؛ قصفت الطّائرات العراقيّة المكتوب عليها “الله أكبر” وقتلت بالكيماوي حوالي خمسة آلاف شخصا بما فيهم والدي، ويوجد حتى الآن عشرة آلاف معوق نتيجة هذه الحرب، والشّاهد أنّ هناك عشرات الجنود العراقيين كانوا تائهين لا يعرفون الذّهاب، وقام الأهالي بمرافقتهم وإعانتهم رغم القصف والألم!!
والنّموذج الثّالث في حرب داعش لليزيديين أو الإيزديين في بلدة سنجار بكردستان العراق، واليزيديون من الطّوائف الموحدة، الّتي تتخذ من الطّاووس رمزا لها، وهي أقليّة تنشر خصوصا في العراق وسوريّة، ولهم طقوسهم الخاصّة، فلما حدث اضطهاد لليزيديين من قبل داعش؛ كان من كردستان جنديّ مسلم طلعت قرعته للحج، وقد دفع أربعة آلاف دولارا للحج، وقبل أربعة أيام من ذهابه؛ هاجمت داعش بلدة اليزيديين، فترك الحج، وذهب لنصرة اليزيديين حتى استشهد في المعركة!!
ومع أنّ في السّابق كانت الحكومة تدفع منحة ماليّة لكلّ من يدخل في الدّين الإسلاميّ السّنيّ، إلا أنّ الطّريقة النّقشبنديّة مقرة للحريات الدّينيّة، والتّعايش بين الطوائف جميعا.
وكانت وزارتنا تسمى بوزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، فأقنعتهم إلى إبدالها بوزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، وصوّت لذلك بالإجماع في عام 2007م، لتضمّ أيضا المسيحيين واليزيديين مع إخوانهم المسلمين.
وفي عام 2015م أنجزنا قانون حق المكونات، فأيّ شخص ظلم بسبب دينه يرجع إليه حقه، ومن حقّ أيّ شخص أن يغير دينه، على أنّ القانون يشترط أن لا يتعارض مع حق الطّوائف الأخرى، فاعترض البعض أنّ الشّريعة الإسلاميّة المصدر الرّئيسي للقانون، وتغيير الدّين يعتبر ردّة، فذهبت إلى بغداد والنّجف للنّظر في القانون، ومراعاة الأديان الأخرى كاليهوديّة والبهائيّة، على أنّه في عهد صدام [ت 2006م] أيّ شخص يكتشف أنّه بهائيّ يعدم!!
وطلبت أن يكون لجميع الأديان ممثل رسمي، بما فيها المسلمون واليهود والمسيحيون والزّرادشتيون واليزيديون والبهائيون وغيرهم.
قلتُ – أي كاتب هذه المذكرات -: العراق تضمّ أجناسا مختلفة، فهناك العرب وهم الأغلب، والأكراد، والأشوريون، والتّركمانيون، والشّبك، والأرمن، والشّركس، وأغلب أهل العراق مسلمون، فالأغلب منهم شيعة إماميون جعفريون، ثمّ يأتي بنسبة كبيرة السّنة، وأغلبهم أشاعرة وماتريديّة، ومنهم سلفيون، ويغلب فيهم الطّرق الصّوفيّة، وأشهر هذه الطّرق القادريّة، ومن القادريّة الكسنزانيّة، ثمّ الطّريقة الرّفاعيّة، والنّقشبنديّة، والخضريّة، والنّبهانيّة، والخالديّة، والسّنة في العراق فقها إمّا أحناف أو شافعيّة أو حنابلة، ثمّ يأتي بعد المسلمين المسيحيون، وأغلبهم كلدانيون كاثوليك، ثمّ يليهم السّريانيون الأرذوكس، ثمّ الإنجيليون، وبعد المسيحيين اليهود الصّابئة المندائيون، ثمّ اليزيديون والبهائيون، ثمّ الكاكائيون والشّبكيون، إلى غير ذلك من المذاهب المعاصرة على شكل فرديّ، فضلا عن التّوجهات السّياسيّة والفكريّة والأدبيّة كالعلمانيّة والرّبوبيّة والبعثيّة واللّبرالبية والعقلانيّة والحداثة والقرآنيين، وحركات الإخوان وحزب الدّعوة وغيرها.
ونأتي مرة أخرى إلى السّيد مريوان النّقشبنديّ حيث يقول – حسب ما فهمتُ من كلامه –: عملنا نحن الأديان الثّمانية في كردستان العراق ضمن فريق واحد، وكوّنا مديرية بعنوان التّعايش الدّينيّ بالتّعاون مع هيئة الأمم، وطلب الملحدون المشاركة والانضمام وأن يكون لهم ممثل في وزارة الأوقاف، إلا أنّه لم يوافق لكونهم ليسوا من هذه الأديان.
ويختم حديثه بالإسلام الكرديّ، وهو إسلام متعايش منذ القدم مع غيره، وساعد على ذلك الطّرق الصّوفيّة المنفتحة كالنّقشبنديّة والخالديّة، وهم لا يتوقفون عند ظواهر النّصوص، كما أنّ قوانين وزارة الأوقاف في كردستان العراق ساعدت في تحقيق التّعايش، ومحاربة دعوات التّطرف، وكذلك ألغيت المناهج والكتب الّتي تدعو إلى التّطرف، حيث يوجد عشرون ألف طالب يدرس في الكليات الدّينيّة، فهنا يحدث تأهيل المدرس والمرشد والإمام بعيدا عن خطاب الكراهيّة وإلغاء الآخر.
ثمّ ألقت الدّكتورة هدى محموديّ الأستاذة الجامعيّة، وعميدة كليّة الفنون في جامعة نورث وسترن في ولاية الينويّ سابقا ورقة بعنوان: السّلام العالميّ في عالم متنوع، والبحث عن حلول، وتحدّثت فيها بداية عن التّفرقة بين الشّرق والغرب في عقولنا فقط وليس في الأمر الواقع، بيد أنّ التّأثر بين الشّرق والغرب قديم جدا، ونحن بجاجة إلى تحدّيين: الأول تحدّي الوحدة في التّنوع، بحيث أنّ التّنوع في الحقيقة وحدة، والتّحدّي الثّاني المتمكن في السّلام، فكيف ممكن أن نرسي السّلام في ظلّ هذا التّنوع؟.
ثمّ تطرقت إلى العنف ضدّ النّساء والأطفال، وقضيّة اضطهاد بعض الجماعات للجماعات الأخرى، ورفض التّعامل معها، وبينت أنّ الأرث الثّقافيّ يساهم في الوحدة دون حصر، ولا يصح إسقاط الإرث لبعض الجوانب والتّطبيقات السّلبيّة.
وعموما أتّفق مع الدّكتورة في قضيّة التّفريق بين الشّرق والغرب كناحية إنسانيّة، فلا فرق بين الشّرق والغرب في هذا، لكن الاختلاف الجغرافيّ، وأثر ذلك على الإنسان الشّرقيّ أو الغربيّ لا يمكن بحال تجاهله، بيد أنّ الاختلاف في هذا عنصر ثراء في الحقيقة إذا أدركنا الذّات الإنسانيّة الواحدة.
وسبق أن أشرت إلى قضيّة الوحدة والتّنوع، وأسلفت أنّ التّنوع هو الأصل، شريطة أن يسخر لخدمة الذّات الواحدة أي الإنسان.
بعد نهاية الجلسة أعدّ المؤتمر ورشتي عمل: أحدهما حول تنمية الذّكاء العاطفي لدى الأطفال للدّكتورة ناديا بو هناد من دولة الإمارات العربيّة المتحدة، وسيأتي الحديث عن الباحثة في الحلقة القادمة، والثّانية حول تصميم الحوار المجتمعيّ مع السّيدة نهى كرمستجي من مملكة البحرين، وتحدّثتُ عن الأستاذة في الحلقة السّابقة.
وعموما قلتُ اختار الورشة الثّانية؛ لارتباط موضوعها بعملي الاجتماعيّ، وفي البداية تحدّثت عن الحوار المجتمعيّ، وطلبت منا ضرب بعض النّماذج العمليّة الّتي ممكن أن يكون حولها حوار مجتمعيّ، ثمّ وزعت قصاصات وطلبت منّا تجميعها، ومن هذه القصاصات يتكوّن لنا في النّهاية تصميم الحوار المجتمعيّ.
والتّصميم بداية يبدأ من تحليل إطار النّزاع، بحيث يؤطر ليكون واضحا وضيقا في الوقت ذاته، حتى لا يتشتت موضوع النّزاع، ثمّ يأتي التّخطيط الاستراتيجيّ عقب التّأطير، فلمّا يؤطر النّزاع؛ يأتي التّخطيط ووضع الاسترتيجيات لننتقل إلى اختيار الأطراف الفاعلة حسب القضيّة، كعضو مجلس الشّورى، أو شيخ المنطقة، أو البائع الّذي له قابلية في المجتمع، أو الكاتب المؤثر في المنطقة، وهكذا، فهذا يختلف حسب النّزاع، وحسب المنطقة، والحلقة الّتي يدور حول النّزاع، ومن يتضمنهم النّزاع، فلمّا نختار الأطراف الفاعلة يأتي اختيار الموقع والجدول الزمنيّ، بحيث لابدّ من تحديد الموقع الّذي تشمله القضيّة المتنازع حولها، والفترة الزّمنيّة الممكنة للعمل فيها، فلمّا يتحدد الموقع والزّمان يأتي تحديد البيئة الآمنة وحساسية النّزاع، بحيث نختار بيئة آمنة تضيّق النّزاع، كأن يكون مجلس البلدة أو مجلس من يرتضيه الجميع، ثمّ يكون التّرويج للمبادرة، واستغلال الطاقات الفاعلة في ذلك للمشاركة في التّرويج، وأخيرا يأتي دور المتابعة والتّقييم.
وعموما أثناء الحديث ضربتُ لها تجربة سلطنة عمان في التّوفيق والمصالحة فيما يتعلّق خصوصا بالجوانب الأسريّة والاجتماعيّة، وأعجبت بها.
وكان اليوم الأول من الورشة عن الجانب النّظري، أمّا الجانب التّطبيقيّ فيكون في اليوم الثّاني كما سنرى.
وفي ختام اليوم الأول من المؤتمر كانت سهرة فنيّة مع فرقة الشّام والفنانة لبنى القنطار، إلا أنني لم أحضر؛ لتعب اليوم، ولنستعدّ ليوم جديد، فذهبنا إلى المطعم للعشاء ثمّ رجعنا السّكن؛ لنستعد لليوم الثّاني من المؤتمر، كما سنرى في الحلقة القادمة.