بقلم: خالد محمد عبده*
تبدو عبارة الصوفي غير مخلوق من العبارات الغريبة، والتي لا يقبلها مسلم يخاف على نفسه من الوقوع في الخطأ، لكننا نتذكر عند قراءة هذه العبارة ما قاله مولانا جلال الدين الرومي يومًا عن المرأة من كونها غير مخلوقة بل خلاّقة، واحتفى مسلمون كثيرون بهذه العبارة ورددها جميعهم على مسامع الآخرين، للتعبير عن تقدير مولانا للمرأة، ومخالفته لما ينال من مكانتها في بعض الأدبيات الإسلامية، لكن موقف الرومي لا يتلخّص في هذه المقولة، ولم تكن صورة المرأة عنده على نحو ثابت أيقونة من أيقونات الجمال التي لا تتبدل، فالمرأة إنسان يصيب ويخطئ وتفعلُ ما تُلام وتستحق التوبيخ عليه!
وتُظهر قصة الإمام الخرقاني أحد أئمة الصوفية في خراسان ظلم المرأة لزوجها، رغم عِظم مكانته ورفعته بين الخلائق، إذ تذكر الروايات التاريخية أن ابن سينا ذهب للقاء الخرقاني بعد أن ذاع صيته بين الناس، ووصل إلى بيته، وكان الخرقاني مشغولاً بكسب معاشه، فلم يكن في البيت غير امرأته، وكانت سيدة سليطة اللسان، انهالت على ابن سينا بالسباب لأنه قطع هذه المسافة الطويلة لزيارة زوجها الخرقاني.. ومن كلام المرأة مع ابن سينا: ذلك الزنديق الكذّاب، فلِم تعبت لأجله؟! ردّ أبو عليّ: لا غنى لي من صحبته. قالت المرأة: ذهب يحتطبُ. وقالت ما لا يليق من فُحش وسبٍّ مما لم يستطع الرومي أن يعيده على مسامع قارئه وهو يعيد سرد القصة في المثنوي، وبصرف النظر عن صحة تلك الواقعة تاريخيًا أو ضعفها إلاّ أنها لاقت رواجًا عند كل من ترجم للإمام الخرقاني، ووجد فيها مولانا جلال الدين الرومي مجالاً لسياقة الدروس والعبر التي تفيد المريد في بدايات سلوكه لطريق السادة الصوفية.
الصوفيُّ غيرُ مخلوقٍ
نُسبت هذه العبارة إلى الإمام أبي الحسن الخرقاني، كما نُسبت إليه عبارات أخرى، يدرجها المفسرون من الصوفية والدارسون للتصوف الإسلامي ضمن شطحات الصوفية، تُذكّر هذه العبارة كل من يتناولها بالبحث في الدراسات الفارسية بمقولة الحلاج “أنا الحق” ومقولة البسطامي “سبحاني ما أعظم شاني”. وكما نُسبت المقولة إلى الخرقاني نسبت إلى خواجه عبد الله الهروي الأنصاري صاحب منازل السائرين والمعروف بحنبليته وذمّه لعلم الكلام وأهله!
من الطبيعي أن تتلقى جماعة من الصوفية هذه العبارة ومثيلاتها بالقبول، وكذلك تنفر عنها أقوامٌ أُخر، ومن هنا كُتبت عدة رسائل في شرح هذه العبارة من قِبل علماء التصوف، وكانت الغاية من كتابة شروحات على هذه العبارة كما ذكر بعضهم في شرحه للرسالة ناسبًا المقولة إلى شيخ الإسلام الهروي الأنصاري، وقد عدّ الغاية من شرحه: (تثيبتًا للمقرّين على إقرارهم وتخريبًا على المنكرين قواعد إنكارهم). وقد رأى نجم الدين الرازي أن يشارك في شرح العبارة برسالة صنّفها، بعد أن نسب المقولة للخرقاني؛ لأنه لم يجد في مسموعاته ولا في منقولاته أن أحدًا من الصوفية رفع القناع عن هذا المعنى الجميل، الذي اعتبره الرازي من (البِكرِ الغيبيّ)!
من هو الخرقاني؟
تظهر شخصية الخرقاني في المراجع العربية بشكل أسطوري وكأنه لا وجود لها في التاريخ، ولا أهمية في الحديث عنها، رغم ذكرها في كافة كتب الطبقات الصوفية المدوّنة باللغة الفارسية بتقدير وإجلال، هذا إذا استثنيا ما يورده السمعاني في كتاب “الأنساب” من ترجمة مطولة نسبيًا (صفحتين) من خلال مقارنتها بما ورد في الكتب العربية الأخرى، فلا تكاد ترجمته تتجاوز بضعة سطور! لذا سنقدم تعريفًا موجزًا به، استنادًا لما يروى عنه في المصادر الفارسية.
يُعرف علي بن أحمد بنسبته (الخرقاني) بين الصوفية، ويوصف بـسلطان المشايخ، وقطب الأوتاد والأبدال، ومقتدى أهل الطريقة والحقيقة، المتمكن في أحواله، المتعيّن بالمعرفة، لا يزال في المشاهدة بقلبه، والمجاهدة بجسده، ذا خضوع وخشوع ورياضة، وصاحب أسرار ومكاشفات، وهمّة عالية، ومرتبة سامية، وله مع اللّه تعالى مقام الانبساط..
ويتم الربط بينه وبين الصوفي الشهير بايزيد البسطامي عبر رواية تجعل من البسطامي متنبئًا بمجيء هذا الصوفي الصالح، فينقل الرواة لنا أن سلطان العارفين أبا يزيد البسطامي قدّس اللّه روحه كان يزور كلّ سنة قبور الشهداء في قرية اسمها دهستان في مكان اسمه سرريك ، ويكون عبوره بخرقان، قرية أبي الحسن الخرقاني، فإذا وصل إليها وقف وتنفّس، فسأله بعض الأصحاب عن ذلك، فقال: إنّي أشمّ رائحة من هذه القرية-التي هي مكان اللصوص وقتئذ- يظهر فيها رجل اسمه عليّ، و كنيته أبو الحسن، يكون سابقا عليّ بثلاث درجات، يحمل ثقل العيال والأهل، ويزرع، ويغرس.
ويبجّل الخرقاني كثيرًا البسطامي فيما أثر عنه من أقوال، وتنسب الروايات له عدة مقولات يشرح فيها كلامًا للبسطامي، ويسأله السلطان في عصر عن معنى قولٍ معين نطق به البسطامي، ومن ذلك: سأل السلطان محمود الشيخ الخرقاني عن قول أبي يزيد البسطامي رحمه الله: (من رآني فقد نجا عن رُقم الشقاوة. قال محمود: يلوح عن هذا الكلام أن أبا يزيد يكون أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أبا لهب وأبا جهل وغيرهما من الكفار رأوا النبي ولم يأمنوا من الشقاوة؟ فقال الشيخ لا نتخطَّ الأدب، ما رأى النبيَّ أحدٌ غير أصحابه، والكفارُ ما رأوه، وإن كانوا يبصرونه، والدليل عليه قوله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْك وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ). سنجد لاحقًا هذه الرؤية التأويلية عند فريد الدين العطار في كتابه “إلهي نامه” والرومي في “المثنوي”.
شيخ الإسلام الأنصاري والإمام الخرقاني
يروى عن الشيخ عبد اللّه الأنصاري، الصوفي الحنبلي أنه قال: أمسكوا بي وقيّدوني وأذهبوني إلى مدينة بلخ، وسمعت أنّ الناس أخذوا الحجارة، وطلعوا السّطوح ليرجموني، فقلت في نفسي: ما أسأت الأدب برجلي حتى صرت مقيّدا مستحقّا للقيد. ثم ألهمني اللّه أنّي يوما بسطت سجادة الشيخ الخرقاني، ووقعت رجلي عليها، فعلمت أنّ هذا العقاب لأجل ذلك، فندمت، وتبت إلى اللّه تعالى، فمن أراد أن يرجمني رأيته ما وافقته يده، وبعد ذلك رفعوا القيد عن رجلي.
تظهر هذه المروية تقدير الشيخ الأنصاري للإمام الخرقاني، وتثبت المراجع بعض الروايات التي تؤكد لقاءهما واستفادة الهروي الأنصاري من علوم الخرقاني الصوفية، ولعل نسبة مقولة الصوفي غير مخلوق إليهما معًا تعبر عن خلط الرواة بين ما قاله الأنصاري وما قاله الهروي. نظرًا لتقارب وجهتي نظرهما الصوفية، فعلى سبيل المثال يقول الهروي الأنصاري:
يا إلهى .. ما أعجب حكمتك؟ !هاتان قطعتان من حديد أخرجتا من منجم واحد، فأما إحداهما فقد أصبحت حدوة يحدون بها الجياد؛ وأما الأخرى فقد أصبحت مرآة ينظر فيها الملك إلى طلعته! يا إلهى.. أما وقد استطعت بقدرتك أن تخلق نار الهجر والفراق، فما حاجتك إلى نار؟!
وفي رباعية أخرى من رباعياته يقول:
يا ربّ اثملني بشراب العشق، وأمتني وأحيني بعشقك
افزعني من كل شيء سوى عشقك؛
وقيّد قدمي مرة واحدة بعشقك.
ويُروى أنّه يوما حصل للإمام الخرقاني حالٌ، فتكلّم في الانبساط، فنودي في سرّه: ألا تخاف من الموت؟! قال: كان لي أخ يخاف من الموت، أمّا أنا فلا. فنودي: ألا تفزع من منكر ونكير حين دخولك في القبر؟ قال: الجمل لا يفزع من صوت الجرس. فنودي: أفلا تفزع من القيامة وأهوالها؟ فقال: إلهي، إذا قامت القيامة، وقامت أهوالها أنا استغرق في بحر التوحيد، وأستريح عن تلك الأحوال.
وروي عنه أيضًا أنه قال: إني لا أنكر وجود الجنة والنار، ولكن أقول: لا محل لهما عندي!
* باحث مصري متخصص في التصوف