الكاتب: خالد محمد عبده
تشبه الأماكن بعضها كثيرا.. تونس أشبه في عمارتها القديمة بفاس وكذلك في الزحف الاسمنتي الجديد فمربعات الزجاج والأسواق الجديدة هي هي .. والطرق والمساحات الفارغة .. تتماثل البلاد العربية في الصور التي تتحول إليها .. وتتشابه صور الناس في المطعم والملبس والمشرب .. كلها صور حديثة .. إذا قيست هذه البلاد بمساحة مصر الجغرافية فهي في الصورة أكبر .. ولذلك فإن مكعبات الزجاج والاسمنت هنا تبدو رقاعا في جسد مصر الأكبر .. الشوارع أكثر هدوءا ليلا .. الطباع هنا أكثر خجلا من مصر .. القلوب أيضا أكثر جفافا .. والكل مشغول بحاله أكثر.
من حسن حظك أن تجد شبيها ومؤنسا لروحك في السفر .. وجدت هذا في فاس مع الصديق الكريم محمد هاشمي فكنا معا لثلاثة أيام وكأننا نعيش عامًا حافلا بالأحداث والمغامرات.. تنبسط الروح حينما تطير وتسافر عبر كلمات وقصص يسردها اللسان تعبر عن حقيقة النفس المسجونة في حدود الغربة المفروضة في “وطن ميلادها” وفي اعتيادها على الاستسلام لمرادات غيرها ..
ففاس القديمة مدينة جميلة .. تناجي ربها بصمت .. تشبه المقطم في مصر فأغلب الصالحين من الصوفية اختاروا أن يسكنوا وتسكن قلوبهم في الجبال بعيدا عن كل صخب وإزعاج.. أبوابُ فاس كأبواب القاهرة الفاطمية .. باب الفتوح وباب النصر .. باب البداوة وباب التحضر .. والناس في مصر كالناس في فاس .. أهل طيبة وأهل شر .. أهل صورة وأهل حق .. أهل صدق وأهل زيف .. وسكّان المقابر يشهدون على كل هذه الصور .. بعض السكان يضحك وبعضهم يبكي وبعضهم يشم رائحة الزرع الذي يحيط به ويستنشق في كل لحظة هواء جديدا فاس الجديدة كمصر اليوم .. أهلها غرباء لا تستطيع أن تميزهم بلباس أو حركة أو بناء أو بأحاديث مختلفة .. الضحكات واحدة والهموم واحدة واللكنات تشبه بعضها البعض .. المباني تتوه لا زخرف يجذب العين ولا منمنمات تأسر الروح .. قطع إسمنتية فيها بقية من أظافر ولحم .. المكسب الحقيقي في صحبة من يريك الضوء في ظل العتمة .. في الروح التي تأبى أن يسجنها أي شيء .. في القلب الذي ينبض وأنت تتساءل كيف يمكنه العيش مغتربا ووحيدا في ظل هذه الدوائر التي يتوه فيها الجن.
أغبط السلحفاء التي ظلت تتابع المسير في إفران Ifran مطمئنة أغبط الأرض التي لم تصرخ بعد أن جف ماؤها وعلتها الأبقار في إفران وأنحني للصخرة التي تقف شاهدة على كل صغارنا وهزلنا وجدنا وتيهنا .
سعدت بالحديث في تونس مع الأستاذ محمد حاج سالم وعائلته التي شعرت أنها عائلتي .. كما سعدت بالحديث واللقاء مع الأستاذ عبد الحق الزموري الذي يشبه في طباعه المصريين الكرام .. وأسعدني ذكر الدكتور عبد الجليل سالم لمصر وأهلها بالخير، فحديثه عن مصر يقترب كثيرًا من حديث الأستاذ الجليل علي الشابي الذي التقيته في منزله في رادس وكان لقاء جميلاً، لقاء بتلميذ يحيى الخشاب ومحمد عبد السلام كفافي بالطبع يكون مسعدا للروح والشكر الجزيل للدكتور عبد الجليل بن سالم الذي كان سببا في هذا اللقاء وقد شرفني باستضافته الكريمة في بيته وحكى لي الكثير مما يحسن بي أن أسرده في وقت لاحق.
أذكر أنه بعد خروجنا من منزل الدكتور سالم طالعت كتاب (صدى الذكريات) وهو سيرة ذاتية سجّل فيها الأستاذ الجليل علي الشابي جزءًا من رحلته الحياتية، في أكثر من مناسبة يذكر الشابي مصر ويدين لها ولأهلها بالفضل ..وقد خصص فصلا للحديث عن الجامعة المصرية التي كان يتابع أساتذتها قبل أن يلتقيهم ويستمع إلى أحاديثهم ويرجو لقاءهم يقظة أو حلما .. روى في سيرته أن صورة يحيى الخشاب ارتسمت في خياله قبل لقائه بسنوات .. كثيرون ممن تلقوا معارفهم في تلك الفترة في مصر أصبحوا من نجباء بلادهم وحازوا أعلى المناصب وأرفعها .. صورة مصر مشرقة في هذا الكتاب تجعل من يعيش في مصر اليوم في حزن لما آل إليه حالها .. هذا العرفان بالجميل لا يتحلى به إلا أبناء الأصول كما نقول.
شغلتني هذه الصورة وأنا أسير في الطريق إلى بنزرت وأرى الناس ينعمون بيوم هادئ وسط الطبيعة بمساحاتها الخضراء المشرقة ويطعمون من خيراتها .. أعادتني هذه الصورة إلى مصر القديمة سقى الله أيامها قبل أن تتلوث الأجواء والأذواق !
في أنطاليا حاولت أن أتابع القراءة لكتاب أحبه فلم أتمكّن من ذلك .. شكل البيوت في أنطاليا والانيا ساحرة يمتلك أغلب الفرس ومن شايعهم بيوتا كثيرة هناك.. أقمت على الساحل ثلاثة أيام في حالة صمت .. تذكرت المكان وأنا أقيم لأيام في منطقة البحيرة في تونس العاصمة .. هنا دفءٌ أكثر ورحمة أكبر .. استطعت أن أتابع في المكان قراءة أخبار نسيمي البغدادي تلميذ الحلاج فكرة وشبيهه حياة وثورة ومماتا ..
في منطقة البحيرة محل تابع لرجل يهودي قديما كان يصنع طعاما شهيا .. كل طعام يمكن أن يكون شهيا إذا تقاسمته مع حيّ يعيش جزءا مما تعيشه ويعاني مما تعاني ولو كان كسرة خبز .. تنظر إلى الييوت من خلال وجوه أهلها .. تتساءل عن بيتك وعن وجهك هل تبدو ملامحك كما ييدو هؤلاء .. هل يمكنك ان تغترب دوما كما اغتربوا او تملك الشجاعة لتبني بقعة لك وتغلقها عليك وتكتفي مدى الحياة.
تشبه تونس في بعض ملامحها تركيا.. في ساحلها وجبالها المكسوة باللون الأخضر .. في نوم أهلها ليلا وهدوء شوراعها .. وفي صخب الأماكن نهار وجري الناس على أعمالهم.. أدرك أن في كل بلد ما يزعج أهله .. لكن الفارق هنا في الصورة أكبر مما يشاهده الإنسان العارف بشؤون مصر .. تظل البلاد هنا نظيفة على الرغم مما أبداه البعض من ملاحظات حولها مقارنا بينها وبين المغرب .. بعض النظام في الطرقات يفتقد الإنسان أغلبه في مصر .. حتى انصراف كل إنسان إلى الانشغال بنفسه وعدم حشره لرأسه في شؤون الغير ..
الحريات هنا مغلفة بمسحة خجل كبيرة فالطباع القديمة أثرت في تصرفات الشباب .. أعجبني إلقاء الغرباء للسلام على بعضهم البعض في الاماكن الحديثة .. هذا السلوك لم يعد موجودًا في مصر من الشباب فأن تكون حداثيا لا بد أن تتعالى حتى تبدو صورتك أكثر أناقة .. تابعت بعض الشباب وهم يعاكسون الفتيات هذه معاكسة أنيقة للغاية إذا ما قارنها البعض بما يراه في مصر .. الفتيات في العاصمة ثيابهن أنيقة ولا يتعرض أحد لهن فيما رأيت بسوء ..
في أحد المقاهي كنت أتحدث في الهاتف ولما علم البعض أني مصري تبادلنا الحديث بأريحية وكان لب الكلام أغنية “العب يلا” ودعت الشباب ضاحكًا واستمعت عدة مرات لأغنية “موجوع قلبي المغربية” ولا يبكي واحد ممن غناها أو عزف لحنها في المقهى.
معرض الكتاب في تونس بدا بالنسبة لي مثل علبة من العلب .. يشبه إلى حد كبير معرض بيروت في شكل العلبة وشكل تظاهراته الثقافية التي تصور .. معرض مصر غير المنظم يظل أضخم معرض في الشرق الأوسط ورغم الأتربة التي أضحت تكسو كلّ شيء في مصر.. هناك عوالم عدة يمكن ان تنفتح عليها في معرض مصر للكتاب ..
جامعة منوبة فيها روح جميلة ..كوّنتها بنفسي من خلال قراءتي.. لكن داخل الجامعات ما ألهى أهلها عن غاياتها .. في مصر الجامعات هكذا وفي المغرب والعراق وفي كافة البلدان العربية .. ويظل طموح الفرد لتحسين وضعه أن يذهب إلى بلاد الخليج أو يحصل على مكانة كبرى في بلده.
رائحة الزيتونة القديمة لا تزال بعض آثارها في تقاسيم أوجه من التقيتهم.. لكنك تدرك الفارق بين عالمين إذا ما شاهدت طلاب الإعلام والسياسة وطلاب دار العلوم قديما في جامعة القاهرة.. كذلك الشأن في الزيتونة ومنوبة .. في منوبة الشباب يطير وفي الزيتونة تسير الطلاب بخطوات متواضعة .. تصدح فيروز صباحًا في منوبة وفي الزيتونة صوت الأشجار في الخارج لا يترقّب الطلاب سماعه. لو لم تنخرط نخبة تونس في السياسي واليومي لعادت تونس جنة في وقت قليل جدا.
كتبت سابقًا عن معرفتي بتونس وأهلها قبل سنوات طويلة مضت، عن طريق متابعة ما يصدر في تونس من مؤلفات وما ينشر في المجلات والدوريات من بحوث وما كنت أعرفه من خلال أصدقاء تعرّفت على بعضهم عام 2007 وتوطدت صلتي بهم من خلال محاوراتنا ومراسلاتنا في شؤون الإسلاميات .. بالطبع كانت هذه المعارف مفيدة للغاية .. لكن شيئا منها لا يعبر بصورة حقانية عن الواقع المعاش هنا. قبل ثلاثة أعوام جاءنا بعض الأساتذة من تونس في مصر بعد لقاء سابق جمعنا في المملكة المغربية حفظها الله وأمّن أهلها .. كان كل شيء في مصر مدهش بالنسبة للأساتذة سلبيا كان أو إيجابيا وكان بعضهم حريصا على أن يكون له حضور في الساحة الثقافية في مصر.. تبقى مصر أم الدنيا وحضور المثقف فيها حياة متجددة وإن كانت أحوالها ليست على ما يرام . جملة من الأساتذة في تونس تفهّمت بعد مكثي في تونس قرابة الشهر لماذا يحرصون على التعامل مؤسسات خليجية ويتمسكون بوظائفهم وتعاملاتهم معهم .. رغم ما يعلنونه من مواقف مناقضة لمسالكهم الشخصية .. يبقى المال هو الذي يتحكمّ في تصرفات كثير من هؤلاء ويلوي عنق الجميع .. فالكل في حاجة ماسة للدراهم والدولارات حتى يتمكن من المعاش .. حتى سلام بعضهم على الآخر يمكن أن يتردد فيه إن لم تجمعهما مصلحة .. يتذكر المرء حديث النبي الغائب : ارحمهم واكفر بهم.
الوضع المعيشي في تونس من حيث القدرة على الإنفاق يشبه نوعًا الوضع في مصر، وإن كانت أحوال تونس أفضل بكثير .. السنغال مثلا أفضل من مصر بحسب ما رأيت فيها من طرق للمعيشة وسبل للحياة .. كينيا أفضل في المعيشة من مصر ‘لك أن تتصور ذلك!’ كيف تشبه مصر تونس إذًا؟! لو أن شابا من مصر أو فتاة سافر إلى بلاد الخليج وأرسل إلى أهله بعضا من ماله لا يبلغ عُشر ما ينفقه في الشهر سيكون هذا المال عونًا كبيرا لأهله في مصر .. كذلك الأمر في تونس ببضع مئات من العملة يمكنه أن يعاون أهله ويجعلهم مستورين ولا يحتاجون إلى أحد ..
رأيت هذا في مصر منذ طفولتي، وقد أصبح هذا الوضع بمثابة المدد الإلهي للمصريين اليوم.. وكذلك في تونس. المعيشة نوعا ما غالية في تونس وإن كانت الأسعار قريبة من الأسعار في مصر .. محلات الملابس المستعملة في كل مكان في العاصمة ولا يتحرّج أحدٌ من شراء ملابسه منها .. ينزل الشاب والفتاة من السيارة ويتبضعون كما شاءوا على عكس المصريين يصدق عليهم المثل القائل ‘ياكل خرا ويشيل عالي’ أو كما قال الفلاح الفصيح في فجر الضمير .. الفواكه تبدو أسعارها غالية قياسا لوفرتها في مصر فلا تصادف عند بائع الفاكهة أحدًا وأنت تمر عليه جيئة وذهابا .. يذكرني تعامل البعض مع الباعة هنا بتعامل اللبنانيين بشراء حاجاتهم على قدر الاستهلاك لغلائها .. مع الفارق في أسعار بعض السلع فثمن وجبة سمك لفرد في بيروت يطعم عائلة كاملة في تونس وعائلتين في مصر. أسعار الوجبات في تونس كالأسعار في مصر مع فارق الخدمة والنظافة بالطبع في تونس .. يصدق هذا بالطبع على المناطق التي زرتها باستثناء صفاقس (المنوفية التونسية) وجربة الساحلية وشريط الجنوب .
التعامل في الفنادق في مصر أفضل من التعامل في تونس ربما لأن الخدمات أمهر في مصر، ففندق ليس ضخما كفندق سفير في الدقي يقدم خدمات افضل من الفنادق التي ترددت عليها في تونس .. وبالنسبة لي تكوين خبرة عن بلد من خلال فنادقه هي خبرة لا معنى لها .. وسائل المواصلات العامة في تونس لم أجربها اعتمدت التاكسي وسيلة مواصلات إضافة إلى مساعدة أصدقائي بتوصيلي إلى الاماكن .. وأسعار التاكسي في تونس قياسا لمصر غالية ولم يتم استغلالي مرة في اي تاكسي ولم يرفض اي سائق توصيلي لأي مكان كما يحدث في مصر .. لكن المواصلات العامة هي هي في مصر كما شاهدتها عن بعد.. زحام وتضييع وقت .
العاصمة قاصمة .. لكن لا يمكنك أن تبتعد عنها .. أعجبتني سوسة والمنستير بشكل خاص، رأيت أن الدراجة وسيلة مواصلات ممتازة لو استخدمها الناسُ هناك .. فالمدينة هادئة وصغيرة وشاطئها جميل .. ككلّ تونس وكطريق بنزرت الجميل .. كيف يمكن للمرء أن يعيش في هذا الهدوء ولا يبدع .. كيف يمكنه أن يسير في هذه المساحة الخضراء ويملّ؟! كيف يمكن للمرء أن يشاهد هذا ولا يحزن على ما آلت إليه أحوال مساحات مصر التي كانت رحبة في وقت ما؟!
لم أعد كسابق عهدي حريصا على زيارة المقامات والأضرحة أضحت عندي مجرد بنايات جرّدها المحيطون بها من جمالها بتحسينها أو تلوينها أو المتاجرة بها .. المقامات بالنسبة لي لا توجد إلاّ في مصر! ويلخصها جملة ويجمعها مقامُ السيدة زينب! لا يعدل هذا المقام مقامٌ في الدنيا كلّها .. مررت ببعض المزرات هنا لم أجد ما أجده في روحي حين أكون في رحاب السيدة.. لذا فخبرتي لا يمكن أن يعتمد عليها غيري.
الحرية نوعا ما في اللباس مكفولة وانفتاح الشباب مع الفتيات لا يجعل نسب التحرش كما في مصر .. كما أن الحرية الجنسية تجعل البعض غير مقبل على هذا النوع من التعدي على الغير! لكن ثمة تحرش عيني راقبته بنفسي من البعض كلما رأى أحدهم فتاةً كادت عيناه أن تقطّع جسدها .. وقفت عند مقر الحكومة وفي شارع بورقيبة أراقب نظرات البعض للفتيات وكأن الشيطان يطلب من الناظر الاستغفار ويعلن أن هذه الأسهم ليست من عنده.
في مكان آخر في العاصمة كنت أنتظر صديقا فقررت أن أسير حتى يأتي الميعاد ويبدو أنني وقفت في مكان لتجمّع المثليين رحبوا بي للغاية وتركوني أدخن سيجارة بعد التدخين انتبهت للحميمية الشديدة ونحن في الشارع فقررت أن أخبرهم أنني في انتظار أمي التي تصحبني لشراء ملابس عيد الأضحى .. ضحكت قليلا معهم ثم مضيت أتابع المسير.