الكاتب: محمــد العامري*
أنا جاد عندما ألتمس منك الآن أن تتكرم بفتح الآلة الحاسبة بهاتفك؛ وأنا متيقن أنَّ لديك رغبة عميقة في أنْ نبدأ سويا بداية مُتقنة..
اختر رقما بين (١-٥) لكن لا تخبرني ما هو..
ثم ضرب (٢)
ثم الناتج جمع (٨)
ثم الناتج تقسيم (٢)
ثم الناتج ناقص الرقم المختار في البداية
الآن أبدل بالرقم في الناتج النهائي أحد حروف أبجد هوز، وذلك على النحو الآتي:
(١) = أ
(٢) = ب
(٣) = ج
(٤) = د
… وهكذا دواليك، بمعنى إذا كان الناتج النهائي هو (٢) فهذا يعني أن حرفك هو (ب).
الآن صرتَ تمتلك حرفا واحدا، هات دولة أوروبية تبدأ بهذا الحرف، لكن لا تخبرني ما هي الدولة..
الآن، ركز على الحرف الثاني من اسم الدولة..
وهات اسم طائر مفترس يبتدئ بهذا الحرف..
إن كنتَ قد اتبعت الخطوات بالشكل الصحيح فأعتقد أنك اخترت نسر الدنمارك، أليس كذلك يا صديقي؟!!!
لا تعجل عليّ.. إنه ليس بسحر إطلاقا !!
وسأخبرك عن الســـر بعد عدة أسطر..
الآن لُطفًا واصل التركيز معي عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف..
***
ستجد في هذا المقال إجابة إرشادية للسؤال الآتي:
ما هو الفخّ الخفيّ الذي يقع فيه أغلب المُقْنِعين؟!
أعتقد أن على (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف أن يحذر من الأفخاخ التي تُفشل عمليته، وتكون له القدرة – في الوقت نفسه – على تحويلها لمصدر قوة !
وستتم الإجابة على السؤال المذكور من خلال المحورين الآتيين:
١) ما هو الفخّ الخفيّ؟
٢) كيف تروّض هذا الفخّ الخفيّ لصالحك؟!
***
لاحظ أنك عندما تستمتع مع زميلك بمثل اللغز الرياضي الذي استفتحنا به مع بعض، فإنك عادةً ما تكون في قمة الثقة؛ لأنك – بكل بساطة – لا تفترض شيئا يُحتمل خطؤه، بل تعرف – على وجه الدقة – الناتج مسبقا بالرغم من أنه لم يخبرك بالرقم الذي لم يفارق ضميرَه !
إنَّ (المفاوض/المُقْنِع) المحترف كذلك تماما، فليس من سمته أن يعصب على عينيه بعصابة الافتراض (الفخّ الخفيّ)، ثم يترك النهاية لرياح الحظ، لتلقي به في مكان مجهول العواقب..
– هل لك أن توضح أكثر؟
— تِكْرَمْ عينك عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف.. هيّا بنا نواصل التعمّق، مبتدئين بالمحور الأول:
١) ما هو الفخّ الخفيّ؟
بادئ ذي بدء يجمُلُ بي التنويه بأن الافتراض ليس هو التنبؤ الذي تحدثت عنه بالتفصيل في مقالي السابق [العملية التفاوضية.. منفعلة أم فاعلة؟] إذْ أعني بالافتراض: التفسير الارتجالي الآنِيّ غير المعتمد على أساس سوى أسرع احتمال يخطر على البال، وصُوَرُ الافتراض في العمليات (التفاوضية/الإقناعية) متعددة، سيركز المقال بؤرة الضوء على زاوية التنازلات..
كيف ذلك؟ لنرَ..
تشاجر الولد مع أخته الكبيرة حول البرتقالة الوحيدة المتبقية في الثلاجة..
هي تريدهــا، وهــو يريدها..
فتعالت أصواتُهما بالعراك..
ولأنه افترض أنها تريدها بالكامل، رضي في الأخير أن يعطيها النصف وله النصف من باب العدل..
كان الولد يريدها لإعداد عصير طازج، فلو كان يدرك أن أخته لم تكن تريد البرتقالةَ إلا قشرَها؛ لإعداد قناع طبيعي على وجهها يعمل كمنظّف للبثور السوداء، لأَخَذَ البرتقالة بالكامل وناولها القشر !!
إذن افتراضه (الفخّ الخفيّ) سَلَبَ عنه نصف البرتقالة !!
وهذا ما حدث تماما مع الطالبَين المشتركَين بالسكن في غرفة واحدة:
-لو سمحت لا تدعُ أصحابك للغرفة، بإمكانك أن تلتقي بهم في الخارج..
–ولكنك عندما يأتون تكون مندمجا في هاتفك وليس في كتبك..
-من قال إنني لا أذاكر؟ هاه؟ أنا أذاكر أكثر منك أصلا..
–خلاص خلاص لن أصطحب زملائي مرة ثانية للغرفة !!
تلاحظون أن النقاش انتهى بالتنازل الكامل من الطالب الأول، الذي فيما يظهر أنه إنما قام بالتنازل؛ تجنبًا للصدام مع الطالب الثاني..
وكل ذلك حدث لأنه افترض أن السبب الكامن وراء عدم ترحيب زميله بقدوم أصدقائه للغرفة هو الإزعاج الذي يُحدِثونه؛ مما يعرقل مذاكرة الدروس، لكنــــه لو ترك افتراضه جانبا وحاول أن يكتشف السبب الحقيقي لتوصَّل إلى أن زميله غير مرتاح لأحد أصدقاء زميله، لكنه من حيث المبدأ فليس لديه ما يحول دون زيارة أصدقائه البقية.
فافتراضه المتعجّل (الفخّ الخفيّ) كان السبب الكامن وراء خسارة زيارة أصدقائه !!
وقِس على ذلك، فالأمثلة بشأن ذلك كثيرة ومتعددة المجالات، وأكاد أجزم أن شريط ذكرياتك ربما حافلٌ بالمزيد من تجاربك في هذا المجال، ويسعدني أن تشاركني بعضا منها على بريدي الالكتروني المدوّن آخر المقال..
وربما تستنكر قائلا:
– لماذا تلقي اللوم عليّ بالكامل، فالطرف الآخر واقعٌ في الخطإ نفسه من حيث عدم ذكر الأسباب الخفية؟
— اطمئن عزيزي فإني أضمن لك عدم قدرة أحد على تحميلك المسؤولية كاملة، كلُّ ما في الأمر أننا – أنت وأنا – كــ (مفاوِضين/مُقْنِعين) محترفين نعمل بالنصيحة الشعبية في قيادة السيارة: “خلّي البقية مجانين وأنت بس وحدك العاقل” بمعنى أنك عندما تقود السيارة لا تفترض أن الآخرين يقودون باحتراف مثلك، فيسبّب اتكالك على ذلك حوادث سير أنت في غنى عنها، الأمر الذي من شأنه أن يجعلك منتبها وحذرا جدا عند القيادة، فشريحة واسعة من محيطنا لا تعرف كيف تحاور فما بالك بالتفاوض؟!! على أننا جميعا ندرك أهمية قيادة المستهدَف (الطرف الآخر) للتناغم بصورة متوازية معنا نحو عملية (تفاوضية/إقناعية) محترفة، غير أن الحديث عن ذلك محلُّه في موضع غير هذا بإذن الله تعالى.
إذن أضحيتَ تؤمن الآن عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف أنك إذا أردت أن تندم على تنازلٍ ما فاجعله ينطلق من افتراضٍ عابر (الفخّ الخفيّ) !!
دعونا إذن ننتقل بكل سلاسة للمحور الثاني، والذي يحمل منعطفا مثيرا في الافتراض:
٢) كيف تروّض هذا الفخّ الخفيّ لصالحك؟!
سأحدثك عن أسلوب واحد فقط.. اتفقنا؟
للإجابة عن هذا الاستفهام العميق للمحور الثاني لنتأمل الحوار الآتي:
المشتري: بكم سعر الجهاز؟
البائع: (٣٥١) ريالًا عُمانًيا.
هنا أطرقَ المشتري هُنَيْهَةً مفكرا بشأن مناسبة السعر لو كان ثمة ضمان لمدة سنة واحدة على الأقل.
البائع (مقاطعا صمت المشتري): أأأ طيب طيب.. ما رأيك بــ (٣١٣) ريالًا عُمانًيا؟
المشتري (محاولا إخفاء تعابير الفرحة التي أوشكت أن ترتسم على تقاسيم وجهه): حسنا، موافق.. وهل مدة الضمان تصل إلى سنة؟
البائع: نعم.
المشتري: إذن على بركة الله !!
***
فلنحلّل ما جرى عن طريق طرح التساؤل الذي يحمل قطب الرحى في نقطتنا محلّ البحث:
– برأيك لماذا بادر البائع بالتنازل لهذه الدرجة؟
— بالضبط، أحسنت؛ لأن البائع افتـــرض أن صمت المشتري المطْبِق يعني أن السعر مرتفع عليه نوعًا ما، مما دفعه للمبادرة بتقديم تخفيض، وتخفيض كبير حتى يضمن موافقة المشتري.
بينما لو أنه قام أولا بالتأكد من مدى مناسبة السعر لدى المشتري، لاكتشف أن المسألة التي تشغل باله ليست السعر وإنما مدة الضمان، وحينها كان سيكسب (٣٨) ريالًا عُمانًيا !!
إذن نلاحــظ بكل جلاء أن اليد التي دفعت بالبائع للوقوع في الافتراض (الفخّ الخفيّ) هي الصمت، فعندما صمَت المشتري افتـــرَض البائع.. على أن افتراضه لن يكون خطأ دائما في كل عملية !! فلنتحلّ بالمرونة المعرفية..
وهنا تحديدا يلوح سؤال في الأفق:
– لماذا يا تُرى يمتلك الصمتُ هذه القوة المحفِّزة للافتراض؟
— سؤال جميل، والجواب أجمل..
لأنه في تواصلنا على المستوى اللفظي يقوم صمتُ طرفٍ ما بتحفيز المبادرة لدى الطرف الآخر لملء الفجوة التي أحدثها الصمت، وعادةً ما يكون ملء الفجوة ارتجاليا بأقرب متاحٍ لديه؛ لأن كل التركيز مُنْصَبٌّ في الحفاظ على استمرارية التواصل اللفظي.
الآن دعك من كل ما سبق !!
فمن حقك أن تتساءل عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف عما إذا تمت ممارسة الصمت معك لتحفيزك على المبادرة، فكيف ستتصرف؟!
واااااااو.. إنه بحق سؤال دقيـــــق للغاية..
حينها أنت من الدهاء بمكان بحيث لا تستخدم بطاقة أخرى، وإنما تستمر بالطواف حول النقطة ذاتها، والمطروحة قبل الصمت بدون أي قفز عليها، وذلك يتضح في المثال الآتي على اعتبار أنك البائع:
المشتري: بكم قطعة الأرض هذه؟
البائع: (٨٩) ألف ريالٍ عُمـــانيٍ.
ثم سكت المشتري..
البائع: إلى أي مدى يناسبك السعر أخي؟
المشتري: في الحقيقة كنت أفكر في إمكانية تحويلها إلى سكني تجاري..
….إلخ
نُلاحظ أنك كبائع قد استخدمت أسلوبًا كاشفا لتوضيح صمت المشتري، بدون أن يحفزك صمتُه للمبادرة المرتجلة التي كانت ستجني عليك، إن هذا الأمر مذهلٌ حقا لو استمررت بالتفكير في فوائده.
الآن وكما اعتدتَ مني الوفاء بالوعد فقد حان وقت إخبارك بسرّ نسر الدنمارك !
لقد تمت صياغة المعادلة الرياضية السابقة بحيث لو اخترت أي رقم من (١) إلى (٥) لكان الناتج دوما هو (٤)..
وإذا كان الحرف الموازي لــ (٤) بحسب حروف (أبجد هوز) هو (د)
فالدولة الأوروبية التي تبدأ بحرف (د) هي الدنمارك لا غير،،
وبما أن الحرف الثاني هو النون، فالطائر المفترس لن يكون إلا النسر، على الأقل فيما أعلم !!
كم تُسعدني مشاركتكم إياي تجاربكم الإقناعية على بريدي الإلكتروني:
m.alaamri610@gmail.com
*كاتب ومدرب وباحث متخصص في التفاوض والإقناع / مؤسس فرضية الإقناع السري (SPx8) مسجلة لدى دائرة الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة / ماجستير لغة عربية / ممارس معتمد من المركز الأمريكي للتنويم بالإيحا