الكاتب: خالد محمد عبده
ـكلُّ ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات، يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء، كما كان لمن شاء الله من الرجال.. من كلام الشيخ الأكبر ابن عربي.
تصوّف النساء، أو الدّين بصيغة المؤنث، عنوان من بدايته يؤمن بالقسمة والتمييز بين جنسين ذكر وأنثى في حضورهما مع الله، ويحدّد لكلِّ جنس منهما لونًا يختص به ويميّزه عن الآخر .. ويُفترض أن الخطاب الإلهي في الدين الإسلامي موجّه للرجال وللنساء .. هنا عبّاد وزهّاد .. وإلى جوارهم أو يسبقنهم نساء صالحات عابدات قانتات.. لم يخص اللهُ الذكورَ دون النساء، بل قال سبحانه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [سورة الأحزاب، الآية 35]
إن قراءة ما سجّلته بعض العلماء من أخبار النساء تجعلك تدرك فارقًا كبيرًا بين فهم النساء اليوم للتصوف أو محاولة الولوج إلى هذا العالم الصوفي وبين سلوك النساء قديمًا .. كما هو الشأن مع فهم الرجال أيضًا للتصوف .. لكلٍّ وجهة هو موليها يبتعد فيها بالطبع عن القديم، وإن ظنّ أنه مقترب وبالسلف الصالح مقتد!
السيدات بالأمس كرابعة وأخواتها .. باكيات مصلّيات .. بكاءً يفوق الحدّ يحدث البكاء علامة في وجههن .. مصلّيات طوال الليل وأطراف النهار .. صوّامات لا يفطرن تقريبًا .. لا يطلبن المال مهما كانت الظروف قاسية .. ربما هذه الصورة مشهورة .. لكنهن أيضًا يتحدثن بما يظنّه مسلمة اليوم شركًا .. إحداهن تريد أن تطفئ النار تحمل بعضه مسرعة فيسألها أحدهم إلى أين تذهبين .. أريد أن أطفئ النار.. فعل يدلّ على شفقة ورحمة الأنثى بمساكين أهل الدنيا .. إحداهن تصرّح في حديثها مع ربّها : أما كان لك عذاب أقوى من النار .. أما كان لك من سجن لمن عصاك سوى جهنم؟!
وسُئل بعض الأولياء عن الأبدال كم يكونون ؟
فقال رضي الله عنه: أربعون نفسًا
فقيل له: لم لا تقول أربعون رجلاً؟
فقال قد يكون فيهم النساء [ابن عربي، عقلة المستوفز].
لم يكن المجتمع الإسلامي منغلقًا كما يصوّره أهل التدين الظاهري اليوم وكما تفعل بعض البيوتات تبعًا للعادات .. كانت السيدة العابدة المتدينة القانتة الذاكرة لله تستقبل الرجال .. تسمعهم .. تجادلهم .. تؤدّبهم .. تعلمهم .. تبدّل وجهتهم .. حتى إن وُجهت بنقد سطحي من مثل (كيف تخالطين الرجال) لسان قلبها ينطق : (كيف يذنب المرء في عمل لله)؟
إحداهن كانت سببًا لأن يتبهل أحد المتصوفة الكبار من النقشبندية إلى ربّه أن يجعله لا يفرّق بين رجل وامرأة اعتمادًا على صورة الجسد وطينته .. فنور الروح لا يؤنث ولا يُذكّر .. فعل هذا الصوفي عبد الرحمن الجامي بعد أن قرأ حكاية لصوفية من مصر أوردها اليافعي في روض الرياحين .. واستطاع في ديوانه الشعري سلسلة الذهب أن ينظم من هذه الحكاية عقدًا لؤلؤيًا جميلا ..
كل هذا قد يكون جاذبًا أو مجالاً للإعجاب بحضور النساء (قديمًا) في المجتمع الإسلامي وعلو مكانتهن .. لكنه سرعان ما يتحوّل إلى أسطورة اليوم إذا لامس الواقع أو قيس عليه .. فالصلاة المنتظرة بحبّ ورغبة عارمة للوصول إلى حضرة ربّ العالمين أضحت طقسًا اعتياديًا لا روح فيه .. وإن كُررت بفعل (الفرائض والسنن المتبعة) فلم تنتج ممارستها عابدة تحفر في قلوب العباد حفرًا لا يُنسى .. أو تشكّل طينة قديمة أو تعيد تخليق ما لوّثته المعارف السرطانية ! وكذلك الصوم .. وفكرة أن تزهد امرأة في المال أو الزواج أو الجنس أمرًا يشبه العثور على الكبريت الأحمر .. الأمر لا يتعلّق بالمرأة فحسب فالمرأة والرجل سواء في ذلك
والنموذج الوحيد الذي نرى فيه ما نقرأه في الكتب هو نموذج (الأم – الجدّة – الجهّال!) وهذا النموذج هو ما نحاول قدر الإمكان الابتعاد عنه لإثبات الذات وإعلانها !
إن ضعف حضور النساء في المصنفات المناقبية ليست خاصية محصورة في العالم الإسلامي، فحتى التقاليد المسيحية لم تعط للمرأة حقّها في حقل القداسة. فعدد النساء المعترف بهن من طرف الكنيسة الكاثولكية بالقداسة ضئيلٌ جدًّا مقارنة بالرجال. فكتب المناقب المسيحية بدورها همّشت النساء، ومثل كل الديانات السماوية، جعلت من الرجل رمزًا للكمال الديني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. [رحّال بوبريك، بركة النساء].
تؤكد روث رودد ضعف حضور النساء في كتب المناقب والتراجم التي دوّنت عبر تاريخ الإسلام في كتابها (النساء في التراجم الإسلامية) فكتاب أبي نعيم الأصفهاني (حلية الأولياء) الذي يعدّ كنزًا ثمينًا للتعرّف على سير الأولياء يحتوي على 28 ترجمة نسائية، (نحو 4 في المئة)، ولكنها جميعًا من عصر الرسول! وعلى الرغم من إيراد صاحب كتاب الرسالة القشيرية في عمله الهام عن التصوف ترجمة لـ83 رجلاً، لم تتضمن رسالته ترجمة لأي امرأة صوفية، رغم كون بعض الرجال المذكورين في الرسالة تلقّى بعض تعاليمه على يد امرأة صوفية، أو التقى بصوفية وعرض تجربته عليها، أو تزوّج من صوفية!
ثمة مفارقة هنا أن ابن الجوزي الحنبلي (المتوفى 597هـ) سجّل في كتابه صفة الصفوة ترجمة لـ 240 امرأة صوفية، أي ما يصل إلى نحو ربع عدد المذكورين في كتابه الذي يبلغ أكثر من ألف صفحة!
يتعجب المرء وهو يقرأ أخبار النساء الصوفية في هذا الكتاب لابن الجوزي، فلطالما قُدّم هذا الرجل باعتباره معاديًا للتصوف، اعتمادًا على ما سجّله في كتابه الشهير “تلبيس إبليس” من نقد للمتصوفة وأحوالهم .. إذ يظل هذا الكتاب حاضرًا في الأدبيات المضادة للتصوف حتى يومنا هذا، فهو بمثابة الشوكة في حلوق المتصوفة! حتى أن شاعرًا ومفكّرًا بحجم محمد إقبال صاحب تجديد التفكير الديني في الإسلام أراد أن يعيد كتابة تلبيس إبليس بصيغة معاصرة لينقد متصوفة عصره ..
إن التفاتة الغربيين إلى كتابات ابن الجوزي لا تقتصر على تلبيس إبليس كما يفعل عوام المثقفين في بلداننا فيوجّهون الاتهامات بناء على نصّ تاريخي كُتب في لحظة معينة لينتقد جملة من الأوضاع ولا ينكر المشارب والطرق إلى ربّ العباد.. بل استفاد المستشرقون من كتابات ابن الجوزي الأخرى، والتي تصبّ في صالح (تاريخ التصوف) وتعيد بناءه يشار هنا إلى كتابات جورج مقدسي التي أضحت متوفرة وروث رودد التي أحلنا عليها قبل قليل!
وقد استفاد من إحالاتهم على ابن الجوزي غيرُ واحد ممن درس التصوف من أمثال (مؤمنة بشير العوف) في كتابها أبي الفرج بن الجوزيّ والتصوّف السنّيّ، وسامي مكارم في كتابه (عاشقات الله) .. لكن ذلك لم يصل بعد إلى الجمهور من خصوم التصوف والمحبين، وكذلك جمهور كبير من المثقفين! ومن الطريف أن كتابات جورج مقدسي وروث رودد صاحبة النساء في التراجم الإسلامية تم تعريب أعمالهما برعاية سعودية .. إلاّ أن الدعايات المخاصمة لا تزال أكثر قوة ورسوخًا في أذهان الجماهير الغفيرة.
بدأ هذا المقال بسؤال عن دور المرأة في التصوف وحضورها، وأردنا أن نمهد له أولاً بالملاحظات السابقة، على أن نتبع ذلك بتفصيل يحاول إلقاء الضوء على هذا الحضور، متمثلاً في كون المرأة وليّة من الأولياء، ومعلّمة ومرشدة للرجال، ومقوّمة لتجارب الصوفية الكبار، وهو ما سيجده القارئ الكريم في المقالات التالية، لكن قبل أن ننتقل إلى المحطة التالية من الرحلة، أحب أن أروي هذه الحكاية:
في إحدى المرات شكا أحدهم إلى سالكٍ صوفيٍّ حاله .. كان ذلك السالك الصوفي قد سافر إلى الهند وقتاً ، وهناك غاب عن كل الملهيات والشواغل.. طلب الصوفيُّ من الشاكي أن يسرد له ما يحزنه .. اعتبر العليل أن طاقة من السماء فُتحت له .. فلعل دواءه مع الشيخ الصوفي .. في النهاية نصحه الشيخ أن يقرأ سورة الفاتحة ففيها حلٌّ لكلٍّ مشكلاته وسيكون له ما يريد بعد تلاوتها!
تعجّب الشاكي وروى لنا ما حدث فليس معقولا أن تُحلّ مشكلاته بقراءة سورة الفاتحة .. أخبرته ساعتها أن من يعتقد في شيءٍ يتحقق له ما يريد حتى لو اعتقد في حَجرٍ.. في بعض الكربات كان البعض ينصحنا أن نردد قول البوصيري مدّاح النبي الأعظم: ومن تكن برسول الله نصرته .. إن تلقه الأُسدُ في آجامها تجمِ .. ويتحقق لك ما تريد إن رددت هذه البيت من البردة الشريفة .. قد يبدو هذا الكلام مضحكًا أو غير معقول بالمرة لكننا نجد وليًّا كبيرًا مثل الشيخ الأكبر -الوليّ العصامي- لم يعترف لأحد بالأبوة الروحية واعترف للأنثى العظيمة في حياته (شمس) بالأمومة الروحية وبِفضلِها فَهِمَ الفرقَ بين نسب النور ونسب الطين .. كانت تخبره شمسٌ أن الله أعطاها فاتحة الكتاب تخدمها .. فكلما أرادت أمرًا بحضوره تقرأ فاتحة الكتاب ويقرأ معها .. تنشئ فاتحة الكتاب بقراءة هذه السيدة النورانية صورة مجسّدة ثم تطلب منها أن تفعل كذا وكذا .. فهي تتصرّف في العالم ويظهر عنها خرق عوائد بفاتحة الكتاب -بحسب رواية ابن عربي- وكانت السيدة شمس تظنّ أن هذا متاحا لكل أحد، بل وتعجب ممن يعتاص عليه شيء وعنده فاتحة الكتاب.
ليس الاعتقاد في فاعلية تلاوة الفاتحة مقتصرًا على عوام الصوفية، بل يعتقد الكبار في ذلك وهم أصحاب التجارب، فإنكار ذلك كلّية ما أسهله لكن الفهم والتدبر والإيمان هو الأصعب! ففي داخل كلّ كرامة أو عجيبة من عجائب النسوة الصوفية نجد درسًا لا بدّ وأن نتعلّمه، فإحدى السيدات الصوفية سقت مريديها من شاة لديها لبنًا وعسلاً كما يروي ابن الجوزي، لكنها وجّهت المريدين قائلة: يا أولادي إن شويهتنا هذه ترعى في قلوب المريدين، فإذا طابت قلوبهم طاب لبنُها، فطيّبوا قلوبكم يطب لكم كلّ شيءٍ طلبتموه!