الكاتب: بدر بن سالم العبري
تحدّثنا في الحلقة الماضيّة عن العهد الأمويّ، ونشير في هذه الحلقة إلى العهدين العباسيّ والأندلسيّ.
أمّا العصر العباسيّ فيمتدّ منذ سقوط الدّولة الأمويّة على يدي أبي العباس عبد الله الملقب بالسّفاح[1] [ت 136هـ] عام 132هـ، واستمرت حتى سقوط بغداد على يدي التّتار عام 656هـ، وتميّزت هذه الدّولة في العديد من فتراتها بالاستقرار، خاصة في العهد العباسيّ الأول [132هـ – 232هـ]، وحدث في هذا العهد نقلة حضاريّة وعلميّة وفكريّة لا يكاد يماثلها من الحضارات العربيّة القديمة، واستفادوا من الأمم السّابقة، ونقلوا علومهم ترجمة وتنقيحا وحفظا وتطويرا، كما أنشأوا المكتبات كمكتبة دار الحكمة الّتي أنشأها المأمون[2] [ت 218هـ]، وهي أقل في التّمدد الخارجيّ من الدّولة الأموية في العموم.
والانفتاح العلميّ والتّرجمة في العصر العباسيّ طالت الغناء أيضا، من هنا حدث تقعيد لهذ الفنّ من قبل علماء وموسيقيين وأدباء اهتموا به مثل:
- أبو منصور الحسن بن زبلة [ت 440هـ] تلميذ ابن سينا[3] [ت 428هـ]، له كتاب الكافيّ في الموسيقى.
- أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابيّ[4] [ت 339هـ]، صاحب كتاب الموسيقى الكبير.
- إخوان الصّفا وخلان الوفا[5].
- الحسين بن أحمد الكاتب [ت 652هـ]، من كتبه الموسيقى كمال أدب الغناء.
بجانب بروز المهتمين من العلماء والموسيقيين والأدباء كان اهتمام الخلفاء أيضا، حيث قرّبوا إليهم المهتمين بالغناء، واشترطوا في المغني أن يكون حافظا للأشعار والنّوادر، ويحسن النّحو والإعراب[6]، والّذي يتقن الموسيقى يكون له مكان عالٍ في الدّولة، وقد يحظى بمصاحبة الخليفة[7].
هذا الاهتمام من قبل الخلفاء نتج عنه محترفون في هذا الفنّ كالأميرة علية بنت المهديّ[8] [210هـ]، وإبراهيم الموصليّ[9] [ت 188هـ]، بجانب القينات اللاّتي انتشرن في مجالس الخلفاء، فقد روي أنّه عزفت مائة قينة في مجلس واحد[10].
أمّا المعازف فقد تنوعت بصورة كبيرة عن السّابق نتيجة الاستفادة من الأمم الأخرى، بل قاموا بتطويرها وترقيتها، ومن المعازف الّتي أخذوها من الفرس وطوّروها الطّنبور.
وأمّا الحضارة الأمويّة الثّانية بالأندلس الّتي تأسست على يدي عبد الرّحمن الدّاخل[11] [172هـ]، والّتي استمرت قرونا، وهذه الحضارة شبيهة بالحضارة العباسيّة في الاهتمام بالغناء من قبل الخلفاء والملوك، وظهر عندهم فنّ الموشحات[12] لتلائم الإيقاع الموسيقيّ، بجانب تطويرهم أيضا لأدوات وآلات الغناء.
وأوروبا استفادت من حضارة الأندلس، فما كان للكاتب الإسبانيّ ثيربانتس[13] [ت 1616م] أن يرقى في أدبه، ولا دانتيّ[14] [ت 1321م] الإيطاليّ في الكوميديا الإلهيّة، ولا شكسبير[15] [ت 1616م] الإنكليزيّ في مسرحياته، فما كان لهؤلاء أن يتقدموا إلا بعد استفادتهم من حضارة الأندلس[16]، ومن استفادة الأوربيين أخذهم العود عن طريق الأندلسيين [17].
يتبع الحلقة السّابعة ……….
الهامش:
[1] أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولد عام 104هـ، وهي القرية الّتي كان أبوه وجدّه نازلين عليها، وقد عهد جدّه بالدّعوة لابنه إبراهيم، ولمّا أحس إبراهيم باقتراب أجله عهد الدّعوة لعبد الله السّفاح، ومن هنا انطلق إلى الكوفة وبويع بالخلافة 132هـ، استمرت خلافته أربع سنوات، حيث توفي بسبب الجدريّ عام 136هـ.
ينظر: الخضريّ: محمد؛ محاضرات في تاريخ الأمم [الدّولة العباسيّة]، ط دار الكتب العلميّة، بيروت/ لبنان، الطّبعة الأولى، 1419هـ/ 1998م، ص: 45 – 51.
[2] عبد الله المأمون بن هارون الرّشيد، ولد عام 170هـ، ولاه أبوه العهد وهو ابن 13 سنة، بويع بالخلافة سنة 198هـ، ودامت خلافته عشرين سنة، حيث قتل غازيا بطرسوس عام 218هـ.
ينظر: الخضريّ: محمد؛ محاضرات في تاريخ الأمم [الدّولة العباسيّة]، مصدر سابق، ص: 163.
[3] تقدّم ترجمته.
[4] تقدّم ترجمته.
[5] جماعة سريّة سياسيّة فلسفيّة باطنيّة، عاشوا بالبصرة في النّصف الثّاني من القرن الرّابع الهجريّ، من أشهرهم محمد بن مشير البستيّ الملقب بالمقدسيّ، وزيد بن رفاعة، لهم معارف جمعوها في خمسين رسالة، وتقع في أربعة أقسام: الرّياضيّات، والطّبيعيّات، والنّفسانيات، والإلهيات.
ينظر: مجلّة الوعي الإسلاميّ، ملحق براعم الإيمان، عدد: 319، ذو الحجة 1423هـ/ مارس 2003م، دولة الكويت، ص: 29.
[6] حسن: ياسين محمد؛ الإسلام وقضايا الفنّ المعاصر، مصدر سابق، ص: 167.
[7] الأسد: ناصر الدّين؛ الغناء والقيان في العصر الجاهليّ، مصدر سابق، ص: 68.
[8] عُليَّة بنت المَهْديّ، شاعرة عربيّة، وهي أخت الخليفة العباسيّ هارون الرّشيد، تُعرف أيضا بـالعبَّاسة، ماتت سنة: 210هـ.
ينظر: الموسوعة العالمية ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأربعاء، 4 أكتوبر 2017م، السّاعة الثّانية ظهرا.
[9] إبراهيم بن ماهان بن مهمن الموصليّ التّميميّ بالولاء، أبو إسحاق النّديم، أوحد زمانه بالغناء واختراع الألحان، شاعر من ندماء الخلفاء، فارسيّ الأصل، كان ينظم الأبيات، ويلحنها، ثمّ يغنيها، مات سنة: 188هـ.
ينظر: الزّركليّ: خير الدّين؛ الأعلام، ج: 1، ص: 58 – 59.
[10] الأسد: ناصر الدّين؛ الغناء والقيان في العصر الجاهليّ، مصدر سابق، ص: 68.
[11] عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام، صقر قريش، مؤسس الدّولة الأمويّة الثّانية في الأندلس عام 138هـ، توفي سنة 172هـ.
ينظر: الموسوعة العالمية ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأربعاء، 4 أكتوبر 2017م، السّاعة الثّانية وربع ظهرا.
[12] نوع من أنواع الشّعر الأندلسيّ، ظهر مع مقدّم بن معافى، ووضع ليتلائم مع الإيقاع الموسيقيّ.
ينظر: ضيف: شوقي؛ الفنّ ومذاهبه في الشّعر العربيّ، ط دار المعارف، مصر، الطّبعة التّاسعة، ص: 450 – 455.
[13] ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا، جنديّ وكاتب مسرحيّ وروائيّ، يُعدّ إحدى الشّخصيات الرّائدة في الأدب الإسبانيّ على مستوى العالم، واشتهر عالميًا بعد كتابة روايته الشّهيرة دون كيخوطيّ دي لا مانتشا بين عامي 1605 – 1615م، توفي سنة: 1616م.
ينظر: الموسوعة العالمية ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأربعاء، 4 أكتوبر 2017م، السّاعة الثّانية والنّصف ظهرا.
[14] دانتي أليغييريّ، شاعر إيطالي من فلورنسا، أعظم أعماله: الكوميديا الإلهيّة المكونة من ثلاثة أقسام: الجحيم، والمطهر، والفردوس, يعتبر البيان الأدبيّ الأعظم الّذي أنتجه أوربا أثناء العصور الوسطى، وقاعدة اللّغة الإيطاليّة الحديثة، توفي سنة: 1321م.
ينظر: الموسوعة العالمية ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأربعاء، 4 أكتوبر 2017م، السّاعة الثّالثة والثّلث عصرا.
[15] وليم شكسبير، شاعر،، وكاتب مسرحيّ، وممثل إنجليزيّ بارز في الأدب الإنجليزيّ خاصة والأدب العالميّ عامّة، سمي بــشاعر الوطنية، وشاعر أفون الملحميّ، توفي سنة: 1616م.
ينظر: الموسوعة العالمية ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأربعاء، 4 أكتوبر 2017م، السّاعة الثّالثة وخمس وعشرين دقيقة عصرا.
[16] الحجيّ: عبد الرّحمن علي؛ أندلسيات، ط دار الانشاد، بيروت/ لبنان، الطّبعة الأولى 1388هـ/ 1969م، ص: 165.
[17] الموسيقى الأوربيّة من اليونان وحتى القرن التّاسع عشر، مصدر سابق، ج: 2، ص: 44.