بقلم:رحمة الهدابية
إن لم تكن أخي بالدم والرحم؛ فأنت أخي في الدين والعقيدة. وإن لم نكن كذلك؛ فنحن إخوة في الإنسانية، لي ما عليك من حقوق وواجبات. فليس من المنطق أبدا -وبعد كل ما اجتمعنا عليه- أن أكرهك أو أمقتك؛ لأنك مختلف عني في بعض الأمور والجزيئات، والعكس صحيح.
فمنذ الوهلة الأولى التي نفخ فيها المولى -عز وجل- الروح في أبينا آدم -عليه السلام- لم يشأ أن يخلقنا نسخا من بعض، وعلى هيئةٍ واحدةٍ، متشابهين في كل صغيرة وكبيرة. ومن جانب آخر؛ لم يخلقنا هكذا مختلفين، حتى نتعارك، ونتقاتل، ويقصي بعضنا الآخر، وإنما خلقنا شعوبا وقبائل؛ لنتعارف، مصداقا لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
إلا أن هذا التعارف والتكامل الذي نتحدث عنه بين البشرية جمعاء لن يتحقق ويؤتي بجميع ثماره الوافرة، إلا إذا امتلكنا فهما واعيا وعمقيا بأن كل ما في هذا الكون الواسع، من مخلوقات وأحياء مختلفة، مخلوقة وموجودة لما يسر لها، بما فيها نحن البشر، على اختلاف أشكالنا، وأحجامنا وألواننا، ففينا الأسود والأبيض، والأحمر والأصفر، والسمين والنحيف، والطويل والقصير، والمسلم، والمسيحي والبوذي… إلخ. ومع هذا الاختلاف والتباين الواضح بيننا نحن البشر أنفسنا قبل غيرنا؛ إلا أننا جميعا نشترك في الهمّ نفسه، وهو إعمار الأرض، وخلافتها على النحو المطلوب منّا، وبما نملكه من وسائل وأدوات متنوعة تساعدنا على ذلك.
فالعاقل منّا والفطن؛ هو من لا يأخذ بمآلات الأمور وظاهرها، وإنما من يأخذ بأصل الشيء وحقيقته. فالاختلاف -في أصله- تمييز لشخوصنا، واستقلال لفكرنا، في عدم تبعيته المفرطة والعمياء للغير، وثراء لأنفسنا، وتطوير لها في البحث الدائم والمستمر لما يناسب المكان والزمان اللذين نعيش فيهما، كما يضفي علينا الاختلاف بعدا آخر في الإساهم الفاعل والواضح في إكمال نقص بعضنا البعض. فما الذي يمكن أن يورثه هذا التشابه بين الجميع -إذا ما أحس المرء ولو لحظة واحدة بأنه وصل إلى مرحلة الكمال، التي تغنيه عن طلب المساعدة من أخيه الآخر- غيرَ بطش وإجرام، وتكبر وطغيان في حقّ الإنسان نفسه والآخرين.
وهذا ما يعيننا -على وجه الخصوص- على معرفة وإدراك المغزى الحقيقي من وراء تعدد هذه المدارس الفقهية والمذاهب الإسلامية، على الرغم من أننا جميعا نستظل بظلال الإسلام، نعبد ربا واحدا، ونؤمن بنبي واحد، ونستمد شريعة هذا الدين من مصدرين أساسيين، هما: الكتاب، والسنة. ومع ذلك؛ لم يعمل الإسلام على تعطيل وإلغاء العقل، بل أوجد المساحة الكاملة لهذا الإنسان ليفكّر، ويجتهد، ويأخذ بالقياس في الأمور التي لم ينزل فيها حكم شرعي صريح، وله في ذلك أيضا الحق في الأخذ بالرأي، وردّه، إن لم يتفق مع اجتهاداته، وفق وقواعد وأصول معروفة في ذلك. ولو رجعنا إلى التاريخ قليلا؛ سنجد كبار الصحابة قد اختلفوا فيما بينهم في الكثير من المسائل، ومن بعدهم التابعين، والعلماء، ولكننا لم نقرأ أو نسمع يوما عن أي واحد من هؤلاء المختلفين قد جيّش الجيوش لمقاتلة من اختلف معه في مسألة معينة، أو رماه بالفكر والزندقة مثلما نراه اليوم.
فعندما تعيش وتربي نفسك ومن حولك على هذا المعنى والمبدأ الجميل، بأن اختلافك مع الآخرين هو اختلاف ثراء، وليس عداء، وعندما تختلف مع أي واحد منهم ليس بالضرورة أن يكون هذا الاختلاف محله ومصدره الكره والضغينة، أو حتى بقصد التفاخر بما تملكه من ثقافة واسعة وآراء مستقلة تمنعك من قَبول رأي المخالف بهذه البساطة. فنحن في الأصل لم نُخلق إمّعات يقلد بعضنا البعض، وإنما خلقنا مختلفين؛ ليجد كل واحد منا ضالته التي خلق من أجلها.
ّ
ما إن تسكن أعماقنا هذه المعاني السامية، والقيم النبيلة، ونستشعر بها بقلوبنا قبل ألسنتنا؛ عندها فقط ستذوب وتتلاشى جميع الأمراض والأحقاد الدفينة، التي أرهقتنا منذ سنوات بعيدة: كداء الطائفية، والحزبية، وتكفير الآخر وشيطنته؛ لأنه مختلف عنّا.
فالاختلاف سمة ربانية على هذه الأرض ولو لم يكن كذلك لما أبدع الله -سبحانه وتعالى- في خلق هذا الكون بهذه الدقة المتناهية والجمال الآسر، في تناغم وانسجام عجيب، على اختلاف وتنوع مخلوقاته ومكوناته البيئية. فهناك البيئة البحرية، والبيئة الصحراوية، والبيئة الجبلية، ناهيك عن عالم الفضاء وما يحويه من أسرار وعجائب كثيرة، ولم يشأ سبحانه أن يخلق الناس على شاكلة واحدة، دون اعتبار لعنصر الاختلاف والأضداد التي شكّلت حياة هذه المخلوقات في هذا الكون.
ردإعادة توجيه
|