الكاتب: بدر بن سالم العبري
درج بعض الباحثين تسميته بالعصر الإسلاميّ، وشخصيّا لا أحبذ هذه التّسمية لسببين: أنّ الإسلام لا يُحصر في عصر معين، وثانيا الإسلام لا يمثله عصر ما، فالعصور تجربة بشريّة تحوي الجانبين الخير والشّر، والصّواب والخطأ، فهي تنسب إلى نتاج البشر لا إلى الإسلام، فممكن أن نقول العصر الأمويّ مثلا، ولكن ليس هو الإسلام الخالص، ولأنّ الإسلام ترك مساحة واسعة للبشر لبناء الحياة وإصلاحها وفق قيم بناء الإنسان ذاته.
لهذا نركز هنا على الحضارة الأمويّة والعباسيّة والأندلس، لتأثير هذه الحضارات في وضع روايات الغناء، وفي توظيف الغناء ذاته، من هنا نفقه سبب نظرة الرّواة والفقهاء إليه في الجملة نظرة سلبيّة، حيث ستؤثر هذه النّظرة في وضع الرّواية من جهة، وفي الحكم السّلبيّ لهذا الجانب من جهة أخرى كما سنراه في مبحث الاستقراء الفلسفيّ والاجتماعيّ.
وعليه يمكن أن نحدد عصر ما بعد العصر النّبويّ بوجه عام من (11هـ) وحتى (656هـ) أي عصر سقوط الخلافة العباسيّة، والأصل يدخل في هذا العصر الخلافة الرّاشدة [من 11هـ وحتى 40هـ]، إلا أننا رأينا في الحلقة الماضيّة بعضهم يعتبرها داخلة في العصر النّبويّ، وبعضهم يرونها مستقلّة، إلا أنّها بلا شك بداية التّجربة السّياسيّة، وتميزت بعدم الاستقراء في غالب فتراتها، ممّا سيؤثر بلا شك في الجوانب الاجتماعيّة والحضاريّة كالغناء والمعازف.
وممّا يذكر من هذا في الخلافة الرّاشدة ما ذكره ابن عبد ربه[1] [ت 327هـ] في العقد الفريد من طريق عبد الله بن عمر[2] [ت 73هـ] عن أبيه [ت 23هـ] قال: مرّ بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر[3] [ت 70هـ] نغني غناء النّصب[4]، فقال: أعيدا عليّ، فأعدنا عليه، فقال: أنتما كحماريّ العباديّ، وقيل: أيّ حمارك شرّ؟ قال هذا ثمّ هذا[5]، وفي هذا أيضا رواية حمزة بن عَبْد اللَّهِ بن عمر[6] [ت؟] قال: كنتُ أحسّ من نفسي بحسن صوت، وكان صوت سالم بن عَبْد اللَّهِ كرغاء البعير فقلت له: أنا أحسن منك صوتا، فَقَالَ لنا عَبْد اللَّهِ بن عمر: خذا حتى أسمع؛ فغنينا غناء الرّكبان، فقلتُ لأبي: أينا أحسن صوتا؟ فَقَالَ: أنتما كحماريّ العباديّ[7].
وأمّا الدّولة الأمويّة [40 هـ وحتى 132هـ]، فهي بدأت على يدي معاوية بن أبي سفيان[8] [ت 60هـ]، وقد تميّز هذا العهد في جملته مقارنة بعهد الخلافة الرّاشدة؛ تميّز بالقوة والاستقرار في فترات مختلفة، مع التّمدد الخارجيّ، وهذا بدوره سيسقط على الجانب الحضاريّ، ومنه ما يتعلّق بجانب الغناء والمعازف.
وساعد في تطور الغناء والمعازف ولع واهتمام بعض الخلفاء به كيزيد بن عبد الملك[9] [ت 105هـ]، ومن الأسباب أيضا في تطوره ما ذكره الشّوكانيّ[10] [ت 1250هـ] أنّ بعض العلماء في هذه الفترة كانوا على ولع به كعمر بن عبد العزيز[11] [ت 101هـ] قبل توليه الخلافة[12].
واشتهر في العصر الأمويّ انتشار القيان، وزاد عددهنّ لأقبال الولاة والخلفاء لهنّ، ويعدّ سائب خاثر[13] [ت 63هـ] نواة النّهضة الموسيقيّة في الدّولة الأمويّة، وأول من نقل الغناء الفارسيّ، وأصبغه بالطّابع العربيّ، وعرف هذا الأسلوب من الغناء بالغناء المتقن الّذي يقابل غناء الرّكبان في العصر الجاهليّ[14]، وقيل إنّ سائبا أول عربي استعمل العود حيث كان يُستعمل الدّف أو القضيب، حتى رأى نشيطا الفارسيّ[15] [ت ؟] يستعمل في غنائه العود فاستعمله هو أيضا [16].
واشتهرت المدينة المنورة بالغناء، ومن أشهر المغنين فيها عزّة الميلاء[17] [ت 115هـ] من أمهر المُغنّين والمغنيات في العصر الأمويّ، ومن أحسن النّاس ضربا بالعود، وكانت مطبوعة على الغناء[18]، وعنها أخذ الغناء مسلم بن محرز مولى ابن عبد الدار[19] [ت ؟] المغني والملحن والمجدد في الغناء، وقيل اتجه أبناء المهاجرين والأنصار إلى الغناء لما قامت الدّولة الأمويّة في دمشق، فأصبح الثّقل في دمشق، فاتجه أهل المدينة إلى الاهتمام بالأدب والفنّ، فظهر منهم من اهتم بالغناء كطويس[20] [ت 92هـ] والغريض[21] [ت 95هـ] وابن محرز وغيرهم[22].
وبدأ في العهد الأمويّ أول التّصنيف في أخبار الموسيقى والغناء، فقد وضع يونس الكاتب[23] [ت 135هـ] كتاب النّغم، وكتاب القيان، وكان نواة لما صنّف بعد ذلك في هذا الفنّ[24].
يتبع الحلقة السّادسة …..
الهوامش:
[1] شهاب الدّين أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبيّ، مولى هشام بن عبد الرّحمن بن معاوية، ولد سنة: 246هـ، كان مغرما بالموسيقى والصّوت الحسن، وكان أديبا شاعرا، مات عام: 327هـ.
ينظر: ابن عبد ربه: شهاب الدّين أحمد بن محمد؛ العقد الفريد، تقديم أحمد أمين، ط دار الكتاب العربيّ، بيروت/ لبنان، ط 1403هـ/ 1983م، ج: 1، ص: هـ – و. [من كلام المترجم].
[2] عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عبد الرّحمن، أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم، وأجمعوا أنّه لم يشهد بدرا، واختلفوا في أحد، من رواة الأحاديث، توفي سنة: 73هـ.
ينظر: ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، مصدر متقدّم، ج: 3، ص: 341 – 342.
[3] أبو عمرو عاصم بن عمر بن الخطاب، تابعيّ مدنيّ، أحد رواة الحديث، جدّ الخليفة الأمويّ عمر بن عبد العزيز لأمّه، ولد في العهد النّبويّ، وتوفي سنة: 70هـ..
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة الرّابعة والنّصف فجرا.
[4] غناء عند العرب أرق من الحداء.
ينظر: آبادي: فيروز؛ القاموس المحيط، تحقيق مكتب التّراث بإشراف محمد العرمسوسي، ط مؤسسة الرّسالة، بيروت/ لبنان، ط 1413هـ/ 1993م، باب الباء، مادّة نصب، ص: 177.
[5] ابن عبد ربه: شهاب الدّين أحمد بن محمد؛ العقد الفريد، مصدر سابق، ج: 1، ص: 8.
[6] أبو عمارة حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وشقيق سالم بن عبد الله بن عمر، تابعيّ، وأحد رواة الحديث، لا يعلم تاريخ وفاته.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة الرّابعة وخمسن دقيقة فجرا.
[7] ابن القيسرانيّ: شرف الدّين أبو عبد الله محمد بن نصر؛ كتاب السّماع، القول في الغناء على الإطلاق، حديث رقم: 13. [نسخة الكترونيّة].
[8] أبو عبد الرّحمن معاوية بن أبي سفيان الأمويّ القرشيّ، ولد بمكة، وتعلّم الكتابة والحساب، وأسلم قبل الفتح، مؤسس الدّولة الأمويّة في الشّام وأوّل خلفائها، توفي سنة: 60 هـ.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّادسة صباحا.
[9] تولى الخلافة بعد مقتل عمر بن عبد العزيز عام: 101هـ، واستمرت خلافته حتى عام: 105هـ العام الّذي مات فيه.
ينظر: العش: يوسف؛ الدّولة الأمويّة والأحداث الّتي سبقتها ومهدت لها ابتداء من فتنة عثمان، ط دار الفكر، دمشق/ سورية، الطّبعة الثّانية 1406هـ/ 1985م، ص: 278 – 282.
[10] محمد بن علي بن محمد الشّوكانيّ اليمنيّ، ولد سنة: 1172هـ، من شيوخه: عبد الرحمن المدائنيّ، والقاسم الخولانيّ، كان زيديّا ثمّ تأثر بأهل الحديث، من كتبه: نيل الأوطار والرّسائل السّلفيّة، وله في الغناء رسالة: إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السّماع، توفي سنة: 1250هـ..
[11] عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأمويّ، ولد عام: 61هـ، ولي الخلافة بعهد من سليمان بن عبد الملك، اشتهر بالعدل، وأبطل سنّة لعن علي بن أبي طالب على المنابر، دامت خلافته سنتين ونصف، توفي سنة: 101هـ.
ينظر: الزّركليّ: خير الدّين؛ الأعلام، ط دار العلم للملايين، بيروت/ لبنان، الطّبعة السّابعة، 1986م،ج: 5، ص: 50.
[12] الشّوكاني: محمد بن علي بن محمد؛ نيل الأوطار، ط مكتبة التّراث، القاهرة/ مصر، ج: 8، ص: 101.
[13] أبو جعفر سائب بن يسار اللّيثيّ بالولاء، فارسيّ الأصل، أخذ عن نشيط الفارسيّ، أحد أئمة الغناء والتّلحين عند العرب، أستاذ معبد، و ابن سريج، وعزة الميلاء، وغيرهم، توفي سنة: 63هـ..
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّادسة وخمس وأربعين دقيقة صباحا.
[14] الأسد: ناصر الدّين؛ الغناء والقيان في العصر الجاهليّ، مصدر سابق، ص: 65.
[15] نشيط الفارسيّ من أقدم المغنين الفرس الّذين أخذ عنهم العرب الغناء، أخذ عنه سائب خاثر، وابن محرز.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّابعة صباحا.
[16] الأسد: ناصر الدّين؛ الغناء والقيان في العصر الجاهليّ، مصدر سابق، ص: 65.
[17] ولِدَت في المدينة المنورة، وتعلّمت الغناء على مغنيّة عجوز تسمّى رائعة، فحذقت فيه، حتّى أصبحت من أمهر المُغنّين والمغنيات في العصر الأمويّ، من أحسن النّاس ضربا بالعود، وكانت مطبوعة على الغناء، ولمّا قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسيّة، فلقنت عزة عنهما نغماً، وألفت عليها ألحاناً عجيبة، توفيت سنة: 78هـ، وقيل 115هـ.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّابعة صباحا.
[18] المرجع نفسه.
[19] مسلم بن محرز مولى ابن عبد الدار، ولد بالمدينة المنورة، أحبّ الموسيقى من صغره، وكان يستمع إلى كبار المغنين أمثال ابن مسجح، تعلّم الموسيقى من المغنية عزة الميلاء، ثمّ سافر إلى فارس ليكتب المزيد من المعلومات حول الفنّ الفارسىّ، ثمّ انتقل إلى الشّام فتعلم محاسن الألحان من الرّوم، ومزجها مع الألحان الفارسيّة ليؤلف منها أغاني صنعها من أشعار العرب، واشتهر بلقب صناج العرب، وينسب له التّجديد في الموسيقى العربية فابتكر ايقاعا سمى بإيقاع الرمل، وغناء سمى بغناء الزوج. وأول من غنى بزوج من الألحان للبيت الشّعرى الواحد، فلم يكتف بلحن واحد يردد مع كلّ بيت، وقد سار المغنون من بعده على خطاه.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّابعة والرّبع صباحا.
[20] اسمه عيسى بن عبد الله أبو عبد المنعم المدنيّ، مولى بني مخزوم، وكنيته أبو عبد المنعم، طويس لقب غلب عليه، أول من غنى في المدينة بالعربيّة، كان بارعا في صناعته، وكان طويلا مضطربا أحول العين، ومشؤوما يضرب به المثل في الشّؤم فيُقال: أشأم من طويس، توفي سنة: 92هـ..
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّابعة والنّصف صباحا.
[21] أبو مروان عبد الملك، عربي الأصل، مولود في مكة، والغريض معناهُ المُغني المجيد، تعلّم الغناء عن ابن سريج حتّى أصبح مغنيًا بارعا. وكان يصطحب في غنائه العود والقضيب والدّف، يقال أشهر مغني العصر الأموي، توفي سنة: 95هـ.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأحد 1/ 10/ 2017م، السّاعة السّابعة والنّصف صباحا.
[22] حسن: ياسين محمد؛ الإسلام وقضايا الفنّ المعاصر، مصدر سابق، ص: 176.
[23] يونس بن سليمان بن شهريار، من هرمز، كاتب شاعر بارع في الغناء، نشأ تحت حضن الخلفاء كالوليد بن يزيد، أول من دوّن الغناء من العرب، حيث صنّف كتابا في الأغانيّ، ونسبها إلى من غنى بها، مات سنة: 135هـ.
ينظر: الزّركليّ: خير الدّين؛ الأعلام، ط دار العلم للملايين، مصدر سابق، ج: 8، ص: 261.
[24] الأسد: ناصر الدّين؛ الغناء والقيان في العصر الجاهليّ، مصدر سابق، ص: 67.