الكاتب: محمد العامري*
عندما طلبت نادية في مقابلة توظيف لدى شركة كبرى للأعمال اللوجستية، أنْ تُضاف مائتا ريال عُماني للراتب المقترح؛ بسبب سنوات خبرتها الخمس، تم الردُّ عليها بالاعتذار؛ لِما تقتضيه سياسة الشركة من صرف راتب موحَّد لجميع المتعينين الجدد من حاملي مؤهل الماجستير. حينئذٍ سألتْ المسؤول بنبرة تفيض منها الثقة بشكل لافت:
– هل تعتقد أن خبرتي تستحق الزيادة التي أطلبها على الراتب المقترح؟
— نعم، ولكني ملتزم بسياسة الشركة.
– جميل جدا، وأنا مثلك تماما أحترم سياسة شركتكم ذات الصيت الإداري الرفيع.. الآن لطفا هل لك أن تخبرني عن أقرب وقت يُجيز للشركة تقديم العلاوات من لحظة التعيين؟
— بعد ثلاثة أشهر.. رد عليها المسؤول باستغراب !
– إذن هل ستمنحني مائتي ريال عُماني بعد ثلاثة أشهر من تسلمي العمل؟
— بالتأكيد !
***
عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف سوف تجد في هذا المقال إجابة مميزة للسؤال الآتي: كيف تستثمر قوة مَن تتفاوض معه لصالحك؟
أعتقد أنَّ على (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف أن يدَّخر قوته مكتفيا باستثمار قوة المستهدَف (الطرف الآخر) ليحصل على ما يريده منه بكل انسيابية !!
وسيجيب المقال عن السؤال آنف الذكر من خلال استِكْناهالمحاور الثلاثة
١) ما المقصود بقوة المستهدَف؟
٢) كيف تستثمرها؟
٣) ما هي الإشارات الإرشادية التي لا بد من توفرها؟
***
١) ما المقصود بقوة المستهدَف؟
تنضوي تحت مفهوم القوة مصادر متعددة، سيتعاطى المقال مع واحد من أهم تلك المصادر، ألا وهو المعيار(المقياس/المبدأ/
وأحسب أنَّ هذا موضعٌ مناسب لِأنْ أشيرَ إلى أننا مع اتفاقنا على أن الموضوعية قيمة إنسانية راقية غير أنناكثيرا ما نكون ضحية تائهة لشَرَك توهُّم اتفاق معايير المنطق والعدالة والموضوعية والإنصاف بيننا..
لأنه ببساطة تُعتبر معاييرنا للمنطق والعدالة والموضوعيةوالإنصاف متباينة جدا كنتيجة طبيعية لخصائص جنسنا البشري..
فما تعدُّه أنت منطقيا قد يراه البعض ضربا من السذاجة..
وما تعدُّه أنت عادلا قد يتقزز البعض من إجحافه..
وما تعدُّه أنت موضوعيا قد يترفَّع البعض من مستنقعه..
وما تعدُّه أنت مُنصِفا قد يصفه البعض بأنه محض استغلال..
والإشكال يكمن في المرحلة اللاحقة، وذلك حين نتخذ من المعايير – التي تَوهَّمْنا أنها بكل تأكيد قاسمٌ مشتركٌ – أرضيةً ننطلق منها للدخول مع المستهدَف في عملية (تفاوضية/إقناعية) وكأنها حقائق ثابتة قال الإجماع فيها كلمته الحاسمة.
أعتقد أنكم تتنبؤون كيف أن خط سير العملية (التفاوضية/الإقناعية) حينها سيحيد عن الهدف الحقيقي منحرفا صوب إثبات عدْلية تلك المعايير ومنطقيتها وموضوعيتها وإنصافها، فتتبعثر الجهود وتتعثر الخُطى، لتتشظى العملية بعدها إلى أشلاء تحمل في نتوءاتها ضررا فادحا لتزيد في الطنبور نغمة قطع العلاقات مع المستهدَف !!
من حق مَن يقرأ الطرح السابق أن يستنكر متسائلا:
– هل يجب عليّ أن أتحرك في العملية (التفاوضية/الإقناعية) كما يريد المستهدَف، وأتنازل عما جئتُ من أجله هكذا بكل بساطة؟
— كونُ التنازل السريع والساذج ليس من صفات (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف، يُعتبر محلّ اتفاق بيننا.
– إذن ماذا تقصد بالضبط؟
— أشكرك على دفع عجلة الموضوع نحو العمق بهذه السرعة..
أقصد الآتي:
على (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف أن يقوم بتوفير وقته وجهده بعدم الانطلاق من معاييره التي قد تكون محلّ اختلاف مع المستهدَف، مما يضطر الأخير لإنشاء سياج دفاعي مدبب..
ولأنه لا بد من توفّر أرضية تنطلق منها العملية (التفاوضية/الإقناعية) لتكون
***
عَودٌ على بدء ..
وبعد أن تحدد المعيار أو المعايير المعتمدة لدى المستهدَف، فقد أصبحت لديك أرضية صلبة مميزة تستطيع من خلالها أن تنطلق منها بكل يسر، ومستنَدًا تحاكمه –بحكمة – إليه..
وبالرغم من فاعلية استثمار معايير المستهدَف التي تُعدُّ من أهم الأدوات (التفاوضية/الإقناعية) إلا أنها لا تزال مغيَّبة حتى على مستوى العديد من (المفاوضين/المُقْنِعين)..
إذا كان ذلك كذلك، فإنه ينقلنا بأمان إلى محاولة استنطاق المحور الثاني:
٢) كيف تستثمرها؟
قبل أن أحاول معكم بيان ذلك، خليقٌ بنا أن نعلمَ سويا أن المعايير التي يعتنقها المستهدَف تتضمن دافعا سيكولوجيا بسبب ترفّع الناس عن مناقضة أنفسهم، فإذا تم تخييرهم بين أن يكونوا منسجمين مع معاييرهم وبين التنكّر لها، فإنهم عادةً ما يحاولون الانقياد لبوصلتهم الأخلاقية الداخلية التي تدفعهم للسير بمقتضى تلكم المعايير..
وبعبارة أخرى، أنت بذلك تمنحهم الخيار: كن متناقضا أو هلُمَّ معي وقدّم لي تعاونك..
وحتى ينقشع أي ضباب قد يتشكل في أُفق ما سبق أودُّ أن أضيف أن ذلك لا يعني ألبتة صُنعَ فخٍ مريبٍ للمستهدَف، فكلُّ ما في الأمر هو محاولة تكوين معادلة تقتبس نورَها من الإصرار على الثبات على المصداقية..
إذن عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف قد غدوتَ تدرك الآن أنه من الفطنة أن تبدأ من الصورة المألوفة (المعيار) في ذهن المستهدَف، وتنطلق من هذه الأرض الصلبة بشكل تدريجي لتحقيق ما تريده، فــ (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف يتقن بجدارة كيف يقود المستهدَف من المألوف إلى غير المألوف خطوة واحدة في كل مرة !
وبذلك تكون في صفِّ المستهدَف، ومهمتك تقتضي مساعدته على أن يتعاطى مع الأمر بعدسته هو، ولكن بنظرة مغايرة من الزاوية التي تحقق لك ما تصبو إليه أنت!! فتشكِّلان ثنائيا ضد المشكلة (التفاوضية/الإقناعية) لا أنْ تكونا ضد بعضكما البعض..
وبالتالي فأنت تقود المستهدَف برضاه التام وبحسب ما تمليه عليه مبادئه هو، بكل شفافية بعيدا عن النصب والخداع..
وبذلك نصل إلى ثالثة الأثافي:
٣) ما هي الإشارات الإرشادية التي لا بد من توفرها؟
أـ أصبحت تعي بعمق ضرورة أن تقرر بأنك ستُلزِم المستهدَف باحترام معياره لإسقاطه واقعا ملموسا، ومع ذلك فإن هذا لا يعني إطلاقا اعتماد تصرفات سيئة سابقة له لجعلها معيارا تُلزمه بها؛ بُغيةَ ضرْب حصار خانق عليه، إذْ إنَّ من شأن ذلك أن يقلب المعادلة رأسا على عقب لتستحيل إلى نتيجة كارثية، فمن الجيد أن ندرك سذاجة استخدام المطرقة لقتل ناموسة !
ب- بَدَهيا يتجمد الماء في درجة حرارة صفر سيليزية، ويغلي في درجة حرارة مائة سيليزية، وذلك يحدث في أي وقت، وسواء كان الماء مستخرجا من خليج عُمان – إن أخرجنا الملوحة من المعادلة طبعا – أو من بحيرة وهوا هاي بالصين أو من نهر رادوفنا بسلوفينيا؛ لأن من شأن المواد ألّا تحيد قيد أُنملة عن قوانينها الثابتة، وهذا كله بخلاف ما يحدث لنا نحن بني البشر، حيث إننا لسنا قوالب جامدة منتظمين تحت لواء قواعد ثابتة بالمليمتر كالمواد !
لماذا أقول هذا؟
لأن التقنية التي شاركتكم إياها لا تعدو أن تكون كبقية التقنيات (التفاوضية/الإقناعية) – أخذًا في الاعتبار أن أثرها يربو كثيرا على أثر التقنيات الكلاسيكية – فلا تتوقع أن تحصل على مثل ما حصل لنادية مع جميع المستهدَفين بنسبة (١٠٠٪) فتيأس من أول محاولة، ولكن الشيء الممتع الذي أعدك به هو أن النتيجة التي ستحصل عليها ستمثل لك طفرةً نوعية مقارنة بالطريقة الكلاسيكية التي تعتمد على الانطلاق من معايير (المفاوِض/المُقْنِع) نفسه، وهي طريقة تنوءُ تحت وَطْأةِ الاندفاعية والدفاعية المستهلَكة..
وأنت من الفطنة بمنزلة تؤهلك لِأَنْ تتلقَّ المعلومة الجديدة من غير تأييد ولا اعتراض – كمرحلة أوّليّة – بل تُخضعها لسيلٍ من التجارب الميدانية لتختبر صلاحيتها، لذلك فالامتنان يأسرني كونك قد قرأت لي بهدوء حتى هذه الكلمة.
ج- من غير المهنية أن توظِّف معيارا سابقا للمستهدَف لم يعد يؤمن به الساعة، فلكلٍّ منّا الحرية الكاملة للاستبدال بالمعايير معاييرَ أخرى جديدة..
لذلك يجب أن تكون خطوتك لاستثمار معيارٍ ما، مسبوقةً بخطوة التأكد بصورة يقينية من استمرارية صلاحيته لديه، فإن كانت منتهية فلْتصرف النظر عنها مباشرة باحثًا لك عن معيار آخر لتعزف عليه أجمل ألحان عمليتك (التفاوضية/الإقناعية).
د- ثمة تأطير لاستثمار المعيار لو تمرَّدتَ عليه فإن كل ما ذُكر من مميزات يكون مُلْغى بالمرة !!
لا تعجل عليَّ.. حبَّة.. حبَّة.
بمعنى أنك عندما تقوم بِرَجْعِ المستهدَف إلى معياره يجب ألا تبدو عدوانيًا أبدا، وكأنك قاضٍ تُحاكم متَّهمًا بالاستناد لمادة في القانون، كأنْ تقول: مَبْدَؤُكَ ينص على كذا فعليك أن تقوم بكذا ! بل لا بد من أن توحي ألفاظك ويشي أسلوبك بتقديرك للمعيار الخاص بالمستهدَف، وأن كل ما في الأمر هو أنك جادٌّ في محاولة أن تبين له أن ذلك المعيار قابعٌ في مساحة مشتركة بينكما، وأنك تأمل تعاونه على تفعيله؛ الأمر الذي من شأنه أن يوصِل للمستهدَف رسالة عميقة بتقديرك العظيم له، ولا تملك نفسُه حينها إلا أن تحدِّثه قائلة:
هذا الشخص يحترم قواعدي، فلا بد إذن من أن أتعاون معه بكل شفافية..
فأنت بذلك تعمل بطريقة تستطيع فيها تنمية العلاقة مع المستهدَف بطريقة تصاعدية متسارعة الخُطى بشكل جنوني !
فطريقة بناء المعلومات لرسم انطباعٍ ما في ذهن المستهدَف هي العلامة الفارقة بين (المفاوضين/المُقْنِعين)المبتدئ منهم والمحترف.
***
وإن نسيتَ كلَّ ما سُرِدَ أعلاه فجميلٌ أنْ يبقَ في ذاكرتك هذه التعويذة الفعّالة، وهي عُصارة ما يرمي إليه المقال: إن تأسيس أرضية عمليتك (التفاوضية/ الإقناعية) من لَبِنات معايير المستهدَف بمثابة تجنيده برضى تام لحصولك على ما تريده منه بكل انسيابية..
لا أدري إن كان قد حصل لك اشمئزاز إزاء الطرق القديمة – مثلي – أو أنه قاب قوسين أو أدنى لحصوله، إلا أنني أكاد أجزم أنه قد تكوَّن لديك حتى الآن انطباعٌ مهم بشأن التضاريس الوعرة للطريقة الكلاسيكية في الانطلاق من المعايير الخاصة بنا عند الدخول في عمليةٍ (تفاوضية/إقناعية) مع المستهدَف كما في مثال صاحبنا الجائع الآتي، والذي أختم به مقالي:
– لماذا تأخر الغداء حتى الآن أيها النادل؟
— نأسف لذلك، فالطلبات كثيرة.
– وماذا يفيدني أسفك؟ قل لي.. هاه؟ أنا جائع جدا ومستعجل.
— نتفهّم ذلك جيدا، وقد تم إخبارك سابقا أن تحضير طبقك سيتأخر؛ نظرا للازدحام الشديد..
– يُفترض بكم أن تنتهوا من تحضير الغداء بأسرع من ذلك حتى أشعر باحترامكم لي.
— نحن نحترمك
– لا، أنتم لا تحترمون الزبائن.
–– بإمكانك أن تبحث عن مطعم آخر إذن.
– ماذا؟ هل تطردني؟ من تحسب نفسك؟
…إلخ !!
*كاتب متخص كاتب متخصص في التنمية البشرية، مؤسس فرضية الإقناع السري ( SPx8) مسجلة لدى دائرة الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة، ماجستير لغة عربية، مدرب في التفاوض والإقناع، ممارس معتمد من المركز الأمريكي للتنويم الإيحائيص في التنمية البشرية، مؤسس فرضية الإقناع السري ( SPx8) مسجلة لدى دائرة الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة، ماجستير لغة عربية، مدرب في التفاوض والإقناع، ممارس معتمد من المركز الأمريكي للتنويم الإيحائي*كاتب متخصص في التنمية البشرية، مؤسس فرضية الإقناع السري ( SPx8) مسجلة لدى دائرة الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة، ماجستير لغة عربية، مدرب في التفاوض والإقناع، ممارس معتمد من المركز الأمريكي للتنويم الإيحائي