الكاتب: أحمد بن سيف الهنائي
كتبت ذات مرةٍ على حائطها:
أبي الغالي، كن بخير فأنا لا أستطيع مجابهة هذا العالم المسعور دون أن تربت على كتفي بحنوك الذي يشعرني بالقوة.
لكن المرض لا يأبه كثيرا لنداءات تلك الفتاة، فعادت مرة أخرى لتكتب على حائطها رسالة استجداءٍ للمرض:
أيها الألم الذي يخترق جنبات أطهر روحٍ على هذه الارض، أتدري أي جرمٍ تقترف؟ إنك تستل روحي بشوكةٍ فولاذية صهرت بالنار والوجع، هل من القوة أن تتباهى ببث الرعب في قلوبنا؟ لي رجاء وحيد يا أيها المرض البغيض؛ فقط دعه وشأنه، فروحه شاخت وذبل جسده، وخذ كل شبابي ونضارتي وازرع مخالبك في نواحي متفرقةٍ من جسدي، وليس لك من طاقةٍ على قلبي وروحي، فقد تغلبت عليهما ما أن وضعت رحالك في “بنكرياس” أبي، تبث ريحك المحملة بالغبار والحصى، وكنت تعرف أنه بنكرياس مليءٌ بالجمال فشوهته بالأذى.. هل ترضيك هذه المقايضة بين مقبلةٍ على الحياة ومدبرٍ يرتجي الرحمة؟.
بين كرٍ وفر، رضي والدها بقضاء الله وقدره، فردد كثيرا “رضينا بقضاء الله وقدره، رضينا بقضاء الله وقدره”، فرحل وترك الفتاة اليانعة تعيش حياة أشبه بالخبال، لا جميل فيها يذكر سوى استدرار شريط الذاكرة، تتقلب على جمر الشوق، ويحرقها فيض المحبة لدلال الراحل وعطفه وباذخ حنانه.
توقفت عن الكتابة، فلا شيء يسعفها، وحدها كانت تعرف ماذا يعني الرحيل دون عودة، عطره لا يغادر غرفتها، ومحفظته وبقايا أدواته تمسكت بها في أنانيةٍ لا حدود لها.
كتبت للمرة الأخيرة في صفحتها الذاوية:
أبي، يقولون أن الموت هو انتقالٌ روحي من عالمٍ تسكنه الخفافيش، إلى عالمٍ تشرق فيه الشمس والقمر معا، عالمٍ يعرف كيف يذكي الروح بملذاتها، وسمعت صوفيا يقول: أن الآباء في هذا العالم يطيرون كالملائكة، ويعزفون موسيقى الحب عاليا في فضاءات الكون، فتخترق موسيقاهم الأرض والسموات والزمان.. هل تصدق يا أبي أنني أؤمن بهذا الرأي، لقد سمعت موسيقاك هذا الصباح، وعلمت أنها موسيقى عذبة لا يستطيع عزفها إلا أنت، موسيقى دغدغتْ كل ذرة إحساس في داخلي، وسمعتك تقول لي من خلالها:
بنيتي الحبيبة، أنا لم أمت، بل رحلت إلى هذا المكان، لأظل أعزف لك أغنيات الفرح والحب والجمال والعذوبة، أسمعك ما تشتهين من ألحانٍ على هيئة كلمات، ليست الكلمات المكونة من الحروف، بل الكلمات التي تحرك القلب وتذكي حرارة الروح، فتشعرين أنني بقربك.. أرأيت أيتها الملاك الحالم أنني لا أزال إلى جوارك مثلما وعدتكِ بذلك وأنت صغيرة؟
ملاحظة:
هذه القصة من نسج الخيال، فقط هي الرغبة في سيلان العاطفة حتى لا تنغمس الروح في ماديات الحياة فننسى أننا نحمل قلوبا يجب أن نجعل لها متنفسا لكي تصفق.