بقلم: د. وفاء الشامسية*
وفي سنة 1948م حين شنت الحرب الأولى على فلسطين، وأسفرت عن هزيمة الجيوش العربية السبعة وانتصار إسرائيل واستيلائها على مزيدٍ من أرض فلسطين، كتب هلال بن بدر البوسعيدي مندّداً بالهزيمة، وكان من الأولى انتصار الجيوش الثامنة، إلا ان هزيمتهم أثارت العجب، بعد ان ضعفت العزيمة، فكانوا كلما يعقدون العزم على القيام بأمرٍ تثبطهم الآراء التي تسعى إلى ذلك في الخفاء(1):
سمعت جعجعة منكم فهل طحنت
تلك الرحى أم غدت في كف مضطرب
آثرتموها وقلتم سوف نجعلها
مزدانة بجهود الفعل والنسب
وسرتم وبنود النصر تقدمكم
فكان فعلكم أدعى إلى العجب
قد انثنيتم وقد خارت عزائمكم
وعم جمعكم ضرب من الشغب
وكلما رمتم أمرا تثبطكم
عن المضي به آراء ذي أرب
أبعد ما انتثرت أشلاؤكم وجرت
دماء أبطالكم في المأزق اللجب
تهادنون ولم تفلل مضاربكم
يا للرجال لأمر غير مرتقب
من الشعراء أيضا الذين تصدّوا لقضية القدس الشيخ عبد الله الخليلي، فقد بدأ بمخاطبة ساسة العرب رابطاً اختلافهم ونقض عهدهم بضياع القدس، موضحاً أن الوحدة هي السّلاح الذي ستعود به القدس:
يا ساسة العرب إلامَ وهنكم
وأنتم في عدة وعد
تختلفون الرأي فيما بينكم
والحال إخفاق ونقض عهد
وخلفكم من يستغل خلفكم
في وثبة الذئب وسمع الخلد
هلم في صدق العزوم إنها
سلاح كل أمة وفرد (2)
أما المهندس الشّاعر سعيد الصقلاوي فينادي القدس مندّداً بالخطايا، ومؤكداً أن صموده قهرٌ للأعداء. فالقدس وطن للشاعر، وبلاد له، يرتّل حبها كل قلبٍ، فيشترك في حمايتها الكنائس والمآذن. ويوضح الشاعر انتماءه للقدس، مجدّداً وفاءه وإخلاصه لها، ومقسماّ أن يظلّ لها فداءً قائلاً:
وَيَا وطني تناهشُك الخطايا
صمودك يطعم العادي بلايا
وَيَا وطني شروقك مستديم
وحقك لن يضيع مع البرايا
بلادي يا بلادي يا بلادي
ترتل حبك الغالي الحنايا
وتعصمكِ الكنائس شامخات
وتحرسكِ المآذن والزوايا
وقدسكِ جمر إيمان المصلي
وسر الله يكتنز الخبايا
وأقصاك المقاوم بالتحدي
جلاء يشهد الدنيا انتمايا
حلفنا مخلصين له وفاء
وأقسمنا نظل لكِ الفدايا
وفي رصدٍ لمبادرةٍ أدبيةٍ معنونةٍ بـ (يومٌ من أجل القدس) قام بها الشعراء العمانيون، نجد حضوراً قويّا للتمثّلات الوجدانيّة والروحيّة، حيث نجد في مقطوعة الشاعر هلال الشيادي ثيم الرفض والتنديد، والتساؤل المستنكر لطول انتظار الصّبح، متسائلاً عن الحياة التي تدور في فلك القلق صبحاً ومساءً، ولكن مهما يطل هذا الصباح المنظر، فإنه آتٍ لا محالة:
متى صباحُكِ يا قدساهُ يأتـــلقُ
وفجرُ عزتك الموعودُ ينبثقُ؟
طالتْ لياليك والأيامُ مظلمةٌ
متى يمزقُ ليلَ الذلة الفلقُ؟
كيفَ الحياةُ على أرضٍ يمرُّ بها
ليلٌ به أرقٌ صبحٌ به قلقُ
مهما يطُلْ نفقُ المحتلِّ فيكِ فلنْ
نعودَ للخلفِ حتى ينتهي النفقُ
وتستمر معاني التنديد والرفض في ردّ الشاعر يحيى الحسيني حيث يقول:
ما فيك يا قدس من أهل النهى رمق
والحق في ريشة العنقاء ملتصق
بيعت مغاليق ارتاج أمنت بها
يوما وأسوارك الشماء تسترق
لم يبق إلا بيوت الشعر عامرة
وهل سيجديك نفعا شعرنا النزق
يا قدس إن سيوف النصر قد غمدت
من يوم أن غاب عنها الفارس الطلق
عش ما استطعت على أعتاب أمنية
فأمة العرب نحو الغرب تستبق
أمّا سليمان العبري، فإنّه يخفف من وطأة الألم بمعاني الأمل في اقتراب الموعد وعودة القدس قائلاً:
يا قدس يا جنة الدنيا وزهرتها
عودي إلينا فإن الموعد الفلق
ماذا أخط من الاشعار في بلد
من بين أحضانها الإيمان ينبثق
أسرجت خيل قوافي الشعر صادقة
وفي ربوعك يا قدساه تستبق
من لي بجيش يهز النصر مبتهلا
وفي كتائب صهيون لهم ألق
غدا سينبت من أجيالنا أمل
ويقرب الوعد والآمال تنطلق
أمّا محمد العبري فإنه يصرخ رافضاً ما يحلّ بالقدس من أهل الخسّة، وينادي على أخيه المسلم فلن تعود القدس إلا بالسيف:
أشهر عصاك فهذا البحر ينفلق
فسوف يدرك أهل الخسة الغرق
كم جردوا أمة الإسلام عزتها
ودنسوا قدسها والقلب يحترق
لأنك الفارس الكرار في حلم
وضارب لسيوف الجبن تمتشق
فإن نهضت فأذن الكون مصغية
تقول سمعا وفيك الفتح يأتلق
فقم أخي روحنا عطشى لمحتفل
في ساحة القدس يخبو إثره الشفق
لا يدرك الفخر نوام ومتكل
ودون رب الورى والسيف لا نثق
ويستبشر الشاعر حمد المعولي بإشراق الشمس بعد طول الغسق، منادياً بالاعتصام بالوحدة، فيقول:
ستشرق الشمس مهما طلت يا غسق
وسوف يقبل بعد الظلمة الفلق
إني أرى النصر قد ﻻحت بشائره
يا ليل إني بربي دائما أثق
فإن في العسر يسرا مقبلا عجلا
يبدد الهم مهما ضاقت الطرق
فلنخلص السعي كي تدنو مفاتحه
فليس بالنوم يأتي الفتح يأتلق
إن تنصروا الله يأت النصر ﻻ تهنوا
بالواحد اعتصموا ما هذه الفرق؟
ويستنكر الشاعر محمود الحمحامي على أمة العرب تهاونها في استرداد القدس قائلاً:
يدنس القدس أنجاس وأمتنا
تتابع اللهو بالشاشات تلتصق
أأمة العرب ماذا عن حميتنا
لنصرة الدين إذ أقصاه يحترق
أأمة العرب ماذا عن محبتنا
لسيد الخلق إذ مسراه يختنق
تمضي السنون وما هبت لرايتنا
رياح نصر وراي الكفر تأتلق
مساجد الفجر تشكو فقد ساجدها
ومسجد القدس يشكو فقده الأفق
ومن الشعراء نذكر أيضا الشاعر أحمد العبري الذي يصف حال القدس في صورة وجدانية جميلة فيقول في مقطعٍ له من قصيدته (صلاةٌ على أعتاب بيت المقدس):
يجـيء الشـتـاءُ ويـنأىَ الشـتـاءُ
ولم نـدر معنى فصولِ السنين
ومــقـدسُنا فـــي سنينٍ عجافٍ
كأنْ لم نـــكنْ قــبلـها زارعين
أنـــؤمنُ إذْ بـــزغتْ شــمسُـنا
أم الــقـلبُ لا يــعـشـقُ الآفلين؟
أنعشقُ ذا الكونَ في حمرةٍ
لكـي يتحـــرك حـــسٌ دفــيـن؟
أليـس القـصــاصٌ حـياةً وهـلْ
لأطفــالنا مـن قصـاصٍ مديـن؟
أمّا في قصيدة (حبل، وكرسي) فإنه يصف جرح القدس قائلاً:
الجرحُ أعمقُ من صيحاتِ آلامي
بكل نزفٍ جرى في المشهدِ الدامي
أمام عيني، وفي كفي، وفي أذني
وملءَ قلبي، وفي صحوي وأحلامي
كما أنّه تمثّل القدس تاريخياً ودينياً من خلال قصيدة مطولة له في وصف رحلة الإسراء والمعراج، صابغاً ذلك كله بصبغةٍ وجدانية، ومما قاله فيها:
في ليلةٍ أنوارُها علْويةٌ
كستَ الضياءَ قبابَه ومرابعَه
وسَرَتْ بأولى القبلتين قداسةٌ
نالَ العُلا فيها، وهزَّ مَجامعَه
نورٌ على نورٍ يزيدُ دُنوَّه
للمنتهى، إذْ يستزيدُ منابعَه
وأنا أمدُّ بخيرِ ذِكرى ناظري
ويلملمُ الشعرُ النقيُّ روائعَه
نادتْ فؤاديَ في الرُّبى زيتونةٌ
كانتْ بعزِّ يمينِ جدي فارعَه
وتقولُ: قد كانتْ ظلاليَ واحةً
فيها يُمارسُ من أراد شرائعَه
كم بابِ مدرسةٍ لكلِّ مشمرٍ
للعلمِ فتَّح للجميعِ مصارعَه
أسوارُ زهرتِنا، حوائرُ أهلِها
وشوارعٌ ما بينها متقاطعة
(الأرمنُ)، (الشرفُ)، (النصارى)، كلها
عاشَتْ بأمنٍ في ظلالِ الرابعة
وطَوتْ ظِلالا كنتُ أغفو حالما
بجلالِها تُدني ثمارا يانعَه
كما نادى الشاعر يونس البوسعيدي في قصيدته (نداءات المرايا) بأمنيته في أن يكون شهيداً مستحضراً ما مثّلته القدس عبر التاريخ، ومندداً بالخائفين والرابضين والساسة الأصنام، فيقول في مطلع قصيدته:
“مَنْ يركَبِ البَحْرَ لا يخشى مِنَ البللِ”
فما حَمَلْتُمْ إلى الأقصى مِنَ الأمَلَ
يا ليتَنِي معَكُم، يا ليتَ أشرعةً
تعودُ بي كفنًا يُطوى على بطَلِ
بل ليتَهُمْ دفنوني تحت قُبّتِهِ
هيَ الشهادةُ ما أرجوهُ في أجَلي
تاقتْ إلى القُدْسِ رُوحي وهي ساخطةٌ
أنّ السيوفَ أهازيجٌ مِنَ الغزلِ
ونجد في قصيدة ” آتٍ إلى عينيكِ” للشاعر عقيل اللواتي تلك الوجدانية البكائيّة التي جعلت القدس سيدة جليلة في عيني الشّاعر، فيعدها بأنه آت إليها، ويصفها بأنها أم الشّهيد، وبنت السّلام متذكراً الروحانيّة التي تتضمخ بها القدس(3)، حيث يقول:
إنِّـي أنا الآتـي إلى عينيكِ
مشغوفاً بذاتــي
من خلفِ أسوار العروبة
آتــــي
تجتاحني الأحــلامُ واللاوعـي
في صلواتـي
إنِّـي إلى عينيكِ
آتٍ
آتٍ وفي عينـيَّ آيـــاتٌ
من الغُصصِ الأليمــةْ
بدمي أُرَتِّـلُـهـا إذا بُــحَّـتْ
حناجرنــا الكريـمــةْ
آتٍ إليكِ ولي مـآثِــرُ منْ أتــى
مُــدنــاً قديمــةْ
آتٍ إلى عينيكِ سيِّـدتي
العظيــمــةْ
إنِّـي إلى عينيكِ
آتٍ
لا تُـخـبــري أحـداً
بأنَّـا قد تلاقينـا
على أُفـقِ الوجــودْ
لا تُـخـبــري أحـداً
فقد جـفَّتْ ينابيعُ العِـدى
وتدفَّقـتْ فينا ينابيعُ
الـصُّمــودْ
لا تُـخـبــري أحـداً
فأنتِ اليومَ حُـبلى يا عروسة مَـنْ
لماضينـا يُعيــدْ
مليون ألفَ ولادةٍ والجــذعُ ينتظِــرُ
المــزيـــدْ
وتساقـطَ الــرُّطــبُ الـمُـضـمَّـخُ
بالـورودْ
ولِـدوا وفي أيديهِــمُ حـــجــرُ
الـخُـلــودْ
لا تُـخـبــري أحـــداً
بهذا الـسِّـرِّ يا أُمَّ الــشِّـهـيـــدْ
إنِّـي إلى عينيكِ
آتٍ
آتٍ إلى عينيكِ يــا
حُـــبَّ الحبــيــبْ
آتٍ إلى عينيكِ يُنعــشُني
الَّلهيــبْ
ويصُـمُّ أُذنــيَّ الـنَّـحـيــبْ
ويروقُ لي جَـــوُّ الحُــروبْ
إنِّـي إلى عينيكِ
آتٍ
آتٍ أُخـلِّـصُ طُــهـرَكِ الـمـوبـوءَ
يا بنتَ الــسَّـلامْ
آتٍ أصـوغُ المجــدَ عِـقـداً
لا يُـباعُ ولا يُـســامْ
آتٍ وإنْ رَقَــدَ الأحـبَّـةُ
في سُـباتٍ باهتـضــامْ
آتٍ إلى عينيكِ من خلفي
يُصــلِّـي الـرُّوحُ والــرُّسُــلُ الــعِـظــامْ
آتٍ وحــرفُ الـشِّـعــرِ
أرشُفـهُ فـأسكُـبُــهُ نـــديِّــــا
فاستفتحـي أنتِ الـقصيــدةَ
أرتــوي ريَّــاً رويَّــــا
شفتـاكِ يا هــمِّـي
تُثــيرُ الـثَّـأرَ فــيَّــا
وتـصُـبُّ من بُــركانِــهـا
نــــاراً عـلــيَّــــا
فـأنا وإنْ طــالَ المــدى
لـمْ أبلُـغ الكِــبَــرَ الـعِتــيّـــا
آتٍ إلــيـكِ حبيبتي
شــيــئــاً فــشــيَّـــا
إنِّـي إلى عينيكِ.. آتٍ
من مـكَّـةٍ فــجــرُ الــسَّـعادةِ
يُــــشـــرِقُ
وعلى الـمــديـــنـةِ
يـُــبــــرِقُ
وبــهِ العِـــــراقُ
يُـــمـنـطَـــقُ
لا تجــزعــي فبه عِـــداكِ
ســــيُـصــعَـــقُ
إنِّـي إلى عينيكِ آتٍ
قـسَمــاً بإســـراءِ العُــروجِ
فإنَّ نــوريَ يــسـطــعُ
إنِّــي إلى عيـنـيـكِ آتٍ
أركـــــعُ
آتٍ وفي يُـمـنــايَ ســيــفٌ
يـــلـــمَـــعُ
آتٍ لأنِّــي مَـنْ أُعـــدَّ لـقطعِ دابـــرِ
مَـنْ عَـــتَــوْا أو في ثـــراكِ
اســتـجــمـعـــوا
إنِّـي إلى عينيكِ.. آتٍ
آتٍ أُضــمِّـــدُ للــجِــــراحْ
إنِّـي الـمُـبـيـدُ وحــاصـدُ
الـشِّـركِ الــمــباحْ
فـأنـا الــمُــؤمَّـــلُ فــيَّ
إحــياءُ الــصَّـلاحْ
وأنـا الـمُـؤلِّـفُ شَـمـلَـكُـمْ
لا تـقـطَـعـــي عـنِّـي
الـنِّـــيـــاحْ
إنِّـي إلى عينيكِ.. آتٍ
آتٍ أصـــكُّ مـسـامِـعَ الـتَّـاريـخِ
هـــلاَّ تـسـمـــعـــي
آتٍ ونـــارُ البـيـتِ تـحــرقُ
إصـــبـــعـــي
آتٍ وصــدرُ الــسِّـبـطِ كـــسَّـــرَ
أضـــلُـــعـــي
آتٍ وفــضــخُ الــرأسِ
في الـمـحــرابِ يــســكُـبُ
أدمــــعــــي
آتٍ وثـــأرُ الله أحــمـلُـــهُ
مــــــعـــــي
آتٍ أيــــا قُــــدســـــــــاهُ
لا لا
تــــــــجـــــــــزعـــــي
المصادر:
1-ديوان السيد هلال بن بدر البوسعيدي.(1989). تحقيق محمد علي الصليبي. ط2، سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة. صـ 105- 106.
2- http://alwatan.com/details/177599
3-عقيل اللواتي، ديوان (سجدة قلب). 2007، دار اكتب للنشر و التوزيع
*عضوة مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، مشرفة فرع الجمعية في محافظة البريمي، ، أكاديمية بجامعة الإمارات العربية المتحدة