الكاتب: مرتضى بن حسن بن علي
منذ بدايات إستقرار الإنسان بعد اكتشافه للزراعة قبل نحو عشرة آلاف سنة، فإن صفحات التاريخ تشير إلى عدم حصول تغييرات كبيرة في حياة الإنسان. والتغييرات التي حصلت – وكانت بعضها عظيمة – لم تبدل بصورة رئيسية من طريقة حياته . وإلى منتصف القرن الثامن عشر ، على سبيل المثال كان الإنسان يسافر من مكان لآخر بواسطه الخيول أو عربة تجرها الخيول، مثلما كان يفعل لآلاف السنين . والوقت الذي كان يستغرقه في السفر بقى بدون تغيير . كما أن الطرق السالكة لم تتبدل كثيراً .
ولكن أي واحد من هؤلاء القدماء إذا ما أتى اليوم سوف يشعر بالتغير الهائل في كل شي ، كما سوف يصاب بالدهشة عندما يرى الناس يسافرون اليوم أسرع من السهام المنطلقة في زمانهم و أن قذيفة واحدة اليوم كافية أن تفتك في لحظة واحدة أكثر مما كان بقدرة بني عبس أن يفعلوه بكل سيوفهم خلال سنوات، كما أن صاروخا واحدا يكون كافيا أن يقتل في ثانية واحدة أكثر من كل الذين قتلوا في حرب البسوس على امتداد سنواتها.
ما الذي حدث في متصف القرن الثامن عشر من الأحداث و التي ما زالت مستمرة لحد الان و بدون توقف و بزخم متسارع لكي تنتج كل تلك التغييرات الكبيرة؟ في تلك الحقبة بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا . وليس هناك تاريخا محددا لقيامها . و لكن تلك الثورة غيرت وما زالت تغيرمن معالم حياتنا ونظرتنا الى الكون والوجود. كما أحدثت تلك الثورة تغييرات هائلة في علائق الإنتاج المختلفة . التغيير لم يحدث في يوم محدد كأنه عمل سحري . ومع ذلك كان التغيير الذي أحدثته الثورة الصناعية سريعا بما فيه الكفاية . من منتصف القرن الثامن عشر وبعد ذلك في أقل من قرن ، تغيرت حياتنا بطريقة أسرع من كل التغييرات التي حدثت خلال الألوف من السنين التي عاشتها البشرية قبل ذلك.
وأفرزت هذه الثورة علائق إنتاجية مختلفة وكان من نتائجها قيام الطبقة العاملة بمعناها الحديث، كما أوجدث علاقة جديدة بين أطراف الإنتاج الثلاثة المعروفة . وفي ذات الوقت فانها جلبت نوعا من الاستغلال من قبل أصحاب الآلة على مستخدميها . وقد أدى ذلك الاستغلال البشع الى مصادمات دامية عديدة، إلى أن تم الاعتراف بحقوق العمال وثم تخصيص يوم خاص لهم تقديراً لجهودهم وللتضحيات الكبيرة المبذولة من قبلهم واعتزازاً بدورهم الرائد . يوم يحتفل العمال بالانجازات الاجتماعية والاقتصادية للحركة العمالية وعلى وجه التحديد استذكارا لسقوط عدد كبير من قتلى في مدينة شيكاغو الامريكية عام 1886 ، وهو حادث هاي ماركت المشهور الذي أصبح في حينه مصدرا لغضب الناس في انحاء كثيرة من العالم.
وفي عمان ، بدأت الحركة العمالية الحديثة منذ فجر النهضة المباركة في عام 1970 ، أي بعد نحو قرن من الإضراب المشهور في مدينة شيكاغو وبعد نحو قرنين من بدء الثورة الصناعية في بريطانيا ، ومنذ تلك الفترة بدأت التشريعات تتوالى لضمان حقوق العاملين متناغمة مع تطور البلد وحرصا من جلالة السلطان المعظم – حفظه الله و رعاه -، ان تضطلع القوة العاملة العمانية بمسؤولياتها تجاه وطنها والمساهمة بجدية على أداء واجباتها باعتبار أن العمل -اي عمل – قيمة نبيلة تعطي للحياة مضمونها الايجابي النافع، ولكونه واجب مقدس وجزء من العبادة . والحكومة قطعت شوطا كبيرا لتطوير قوانين العمل وضمان حقوق العمال وهي جادة على مواصلة جهودها من أجل الاستفادة الكبرى من قدراتهم وطاقاتهم . وتحسين مستويات معيشتهم.
وبقدر ما يجب أن يحصل العمال على حماية ويتمتعوا بحقوق ، فانه تقع عليهم ايضا واجبات. والحقوق والواجبات كفتان في ميزان واحد ولا يمكن الافراط بكفة دون الاخرى ، او رجحان واحدة على حساب الثانية . والحقوق تستلزم واجبات اداء العمل بدقة وعناية والتقيد بالتعليمات والأنظمة والإمتناع عن ممارسة أي نشاط منافس او مضر للمؤسسة والمحافظة على سرية العمل و الإحساس بدرجة كبيرة من المسؤولية وشعور الاعتزاز بالعمل ، ومحاولة التعليم و التدريب بصورة مستمرة و الاستفادة من الخبرات وتصقيل المواهب من اجل زيادة الانتاجيةوالحصول من خلالها على منافع اكبر لتحسين مستويات حياة العمال. والمؤسسات في كل انحاء العالم تتعامل مع انتاجية العامل و ليس مع دفاتر الحضور والانصراف.
وقد حث الدين الاسلامي الحنيف على العمل ، وميز في الأهمية بين الذين يعملون أو الذين لا يعملون . وكان الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام ) يحث أصحابه على العمل وأداء الواجب وطلب الرزق حتى من الاحتطاب، كما أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض ) كان يؤنب القاعدين عن العمل ويقول لهم : ان السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة .
وعمالنا اليوم مدعوون ايضا على بذل جهد اكبر لتحسين اوضاعهم عن طريق العمل والإتقان فيه ، لأن العمل مرتبط إلى حد كبير بالإتقان ، وهو بدونه مضيعة للوقت و الجهد معا ويكون له دور سلبي على مشروع العمل نفسه وبالتالي على طرفي الانتاج معاً . وإذا نظرنا حولنا إلى الدول المتقدمة لوجدنا الناس هناك مثل خلية نحل تعمل في الليل والنهار وتتفوق في الأداء على جميع الأصعدة . كل عامل يعرف دوره وواجبه ويبدع فيهما . والاتقان والابداع يعكسان على العامل نفسه كما يساهم على تحسين مستويات معيشته .
وفي الوقت الذي تحاول الحكومة على الاهتمام بالعمال وتوفير فرص العمل المجدية لهم و تحسين أوضاعهم ، فانه يقع على العمال ايضا ان يؤدوا واجباتهم عن طريق تطوير إنتاجيتهم . والإنتاجية هي مقدار السلع والخدمات التي يتمكن العامل من إنجازها في فترة زمنية محددة . والأنتاجية ليست متعلقة بعدد ساعات العمل التي بعمل من خلالها العامل ، وانما هي تقاس بالانجاز المتحقق ، أي جودة العمل من خلال كفاءة العامل . والإنتاجية تساعد على نمو المؤسسات وزيادة الأرباح التي تنعكس ايجابيا على العاملين ، لأن جزءا منها تدفع لهم نقدا على شكل مكافآت والقسم الاخر تذهب لتطوير أعمال الشركة وتوسعة أعمالها و التي بدورها توفر فرص عمل أخرى للآخرين وتقديم الأموال لخزينة الدولة عن طريق دفع الضرائب . أي ان الإنتاجية مفيدة لكل أطراف الإنتاج الثلاثة
و الامل ان تساهم اطراف الانتاج الثلاثة على تهيئة اجواء اكثر ملائمة لايجاد ظروف تتمكن المؤسسات في ظلها ان تعمل مثل الشركات المساهمة و يستفيد من فوائدها وارباحها من اسهموا في رأسمالها وتحملوا المخاطر من اجلها، والذين عملوا و ساهموا عن طريق جهدهم و انتاجيتهم على تعظيم تلك الارباح.