الكاتب: سماء عيسى*
١- كتاب: المحاربة، لأبي المنذر بشير بن محمد بن محمود الرحيلي:
يشكّل هذا الكتاب – لما فيه من مبادئ التسامح الإنساني، المستقاة من سيرة الرسول الكريم وسنته- المرجع الأساس فكريًا، لحفيده الإمام سعيد بن عبدالله الرحيلي، فيما يتعلق بكيفية تعامل الإمام مع أعداءه.
يُركّز العلامة الرحيلي في كتابه على النهي عن المثلة، وعن الغلول، وعن قتل الشيخ الفاني، وقتل النساء، وقتل الصبيان، ويضيف: أنه على المسلمين الوفاء إذا وقع عهدٌ أو صلحٌ بينهم وبين أعداءهم، وحربهم تجوز إذا نقضوا هم العهد، ويضيف العلامة الرحيلي في كتابه: إنه لا سباء على أهل الأوثان ولا جزية، كما أنه، لا مناكحة لهم ولا موارثة منهم، ولا تؤكل ذبائحهم، إلا أن ذلك ممكنا مع أهل الكتاب، فقد أحلّ الله أكل ذبائحهم، ونكاح المحصنات من نسائهم، بل إن العلامة الرحيلي يذهب مؤيدا قول بعض فقهاء المسلمين في حرب الباغين، كتب: “فإما القول بأن لا سبيل على أموال الباغين، فهو كذلك”، وكتب: “وقد قالوا: بأن لا سبيل على أموالهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يبيتون في ديارهم…”.
يذهب شارحا مدافعا عن وجهة نظره المتسامحة الإنسانية في التعامل مع الأعداء: “وليس بسبيل الأسير منهم سبيل المتشاغل والقائم؛ لأن الأسير في حال أسره ممنوعٌ من البغي والظلم، عاجزٌ عنه قد حيل بينه وبينه”، ويفسر قول الفقهاء: “ولا يتبع مدبرهم”، أنه وجب على المسلمين ألا يقتلوا منهزمين، إذ أن ظهر للمسلمين في تفرقهم توبة منهم عن بغيهم، وأمنوا معاودتهم للبغي عليهم؛ أمسك المسلمون عن اتباعهم، ويفسر: “ولا يجهز على جريحهم”، أي لأن جراحاتهم تحول بينهم وبين البغي والظلم، إلا إنه يضيف: “إنه إذا كانت الجراحة تقيم له -أي الجريح العدو- الظلم والبغي؛ فللمسلمين قتله”.
٢-الإمام أبو القاسم سعيد بن عبدالله بن محمد بن محبوب بن الرحيل بن سيف بن هبيره فارس الرسول -صلى الله عليه وسلم- (٣٢٠-٣٢٨هـ).
بُويع الفقيه الشيخ سعيد بن عبدالله الرحيلي بيعة دفاع، ولم يبايع على الشراء، وينحدر هذا الإمام من بيت عُرف بالعلم والفقه، إذ أن جدّه محبوب بن الرحيل أحد حملة العلم من البصرة إلى عُمان، أما جده المباشر وأبيه كانا من أشهر علماء القرن الثالث الهجري، كما قرب ذلك الدكتور سعيد بن محمد الهاشمي، في كتابه: دراسات في التاريخ العُماني.
كانت إمامته بالرستاق مجايلة لحكم يوسف بن وجيه، وهو القائد العسكري بنزوى للحكم العباسي، ولكن يوسف بن وجيه طمح إلى ما هو أكثر، إذ صكّ عملة باسمه مقرونا بأسماء الخلفاء، ويضيف الدكتور الهاشمي: إن غموضا يكتنف ظهور يوسف بن وجيه في المصادر العمانية، إذ أن هذا الرجل ملك ناحية من عُمان، وهي أرض السر في الظاهرة حتى البريمي، ما يهمّنا هنا هو تجايل إمامة الإمام الرحيلي مع فترة ملك يوسف بن وجيه على عمان، حتى استشهاد الإمام سنة ٣٢٨هجري. وما يهمّ أيضا، ذكر الحروب التي دارت بينهما، وموقف الإمام الرحيلي الإنساني المتسامح، متأثرا دون شك بكتاب جده كتاب المحاربة، المشار إليه سابقا.
يكتب نور الدين السالمي: إن الإمام الرحيلي كتب إلى يوسف بن وجيه كتابا يذكر فيه حسن سيرة المسلمين في حربه، وأنهم تبعوا في ذلك سيرة أسلافهم، ومن ذلك الكتاب، قوله: من الإمام سعيد بن عبدالله ومن قبله من المسلمين، إلى يوسف بن وجيه، وإن في شأننا وشأنك بعجب، كحلقة حديد في رز باب، اتهم بهذا رجل من الرعية عندنا أنه قلعها من معسكر أصحابك بنزوى، فحبسنا الذي اتهم بها، لأنّا نستحل حبس أهل التهم على قدر استحقاقهم في حكم المسلمين، وقلنا للناس جَهْرًا على رؤوس الملاء: إن أموال أهل القبلة حرام علينا، كحرمة أموالنا على بَعضُنَا بعض، وحجرنا على الناس التعرض لأشيائكم ما دق منها وما جل، حتى قال: من لا علم له بأصول دين المسلمين، أنكم الآن حفظة للجند على أموالهم ،ومن ذلك أن الحبوب التي جُمعت من الأمصار التي استولينا عليها وجرى عليها حكمنا، لما علم الناس منا أنا لا نستحل شيئا، ولا نقار أحدا على معصية الله كالمناديل، ما كان من الناس منعهم ذلك من التعرض لأشيائكم كلها التي كانت في جوارنا من بلداننا ، ولولا خوف العقوبة منا لانتهب ذلك بأيسر مؤنة، ولم يكن ذلك تقربا إليك، ولا ابتغاء وسيلة منا إليك، ولكن اتبعنا في ذلك كتاب الله وآثار أسلافنا -رحمهم الله-.
من هذا الكتاب، قال: “وحاربناك محاربة المسلمين لأهل البغي، حتى تفيء إلى أمر الله لا نهاية لذلك عندنا، أو تفنى أرواحنا أو روحك في إحياء الحق إذا صح معنا، ومن كان في يده مال فهو أولى بما في يده، لأنّا لا نزيل مالا بلا حجة”.
استشهد الإمام الرحيلي، ويوسف بن وجيه ما زال حاكما بنزوى؛ لكن طموحه قاده إلى خارجها، اذ حارب البصرة وقارب على ملكها، لولا هزيمتًه إثر خدعة من ملّاح معه، تعاون ضده؛ فهرب منها بعد حرق سفنه ورجاله.
ثمة تاريخ طويل من التسامح ورثه الإمام الرحيلي، فضلا عن كتاب جده العلامة أبي المنذر سالف الذكر، يعود أيضا إلى جده الأكبر العلامة أبي عبدالله عبدالله محمد بن محبوب الرحيلي، الذي أخذ عنه الإمام الصلت بن مالك كتابه الذي كان بمثابة عهد الإمام للغزاة، في غزوته الشهيرة على جزيرة سقطرى، وهو كتاب أراد به الإمام أن يكون بمثابة الدليل الأخلاقي والإنساني لقادته وجنوده في حربهم لاسترجاع سقطرى، جاء فيه: “وإذا التحمت الحرب بينكم وبينهم فلا تقتلوا صبيا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، الا شيخا أو امرأة أعانوا على القتال، ومن قتلتموه عند المحاربة فلا تمثّلوا به؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المثلة”.
ثم إنه في الكتاب أيضا، أمرهم بتوزيع الجزية: ثلثها على فقراء البلد، والثلثين لبيت مال المسلمين، ثم يذهب إلى إرشادهم الأخلاقي في التعامل مع السبايا من النساء، آمرا إياهم اتقاء الله وعدم اغتصابهن، بل ويمضي إلى أمرهم بإخلاء سبيل المواليد وعدم سبيهم، ما إذا هناك شك في مولده كان قبل العهد أو بعده.
ويمضي العلامة أبو عبدالله محمد بن محبوب في كتابه مقدرا وبقدسيّة الإنجيل، آمرا جنوده حالة رغبتهم في نكاح نساء النصارى، من أهل سقطرى شرط من يقرأ الإنجيل من أهل العهد منهم: “واعلموا أنه لا يحل لأحد من المسلمين نكاح نساء النصارى من أهل سقطرى، لا نساء أهل العهد منهم، ولا نساء أهل الحرب، إلا نساء الذين يقرأون الإنجيل من أهل العهد منهم”، لاحقا.. وفي القرن السادس عشر الميلادي، عندما غزى البرتغاليون سقطرى، واستطاعوا بعد مقاومة عنيفة احتلالها؛ حوّلوا مسجدها الرئيس إلى كنيسة أطلقوا عليها “قديسة النصر”، يكتب افونسو دلبوكيرك، بأن رجاله انهمرت دموعهم أثناء تأدية القداس، واصفا الكنيسة -عندما كانت مسجدا- ببيت البغض.
كتب نور الدين السالمي: إن كتاب الإمام الصلت بن مالك، إلى جنده المشاركين في غزوة سقطرى، وجد بخط الشيخ أبي عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان، مكتوبا في بعض الكتب أنه عن أبي عبدالله محمد بن محبوب -رحمه الله- وكان العلامة محمد بن محبوب على رأس العلماء المبايعين للأمام الصلت سنة سبع وثلاثين ومائيتين، وقلده الإمام القضاء على صحار وتوابعها، سنة إحدى وخمسين ومائتين، ومات قبل الإمام بصحار، يوم الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر المحرم، سنة سنتين ومائتين، مثلما أرّخ لذلك الشيخ سيف بن حمود البطاشي في إتحافه، لهذا تصح المقارنة حتما بين التجربة التاريخية للعمانيين في التعامل الإنساني السمح مع أعداءهم، الذين دون المستوى الحضاري الأخلاقي في التعامل معهم، سواء كانوا عربا ومسلمين، أو كانوا غزاة من أوروبا.
مثلما يعتز العمانيون بتعاملهم الإنساني الخلاق مع أعداءهم، يعتز الغزاة بهمجيتهم ووحشيّتهم، كتب نور الدين السالمي، واصفا وحشية محمد بن نور على العمانيين: “فلمّا انهزم أهل عمان؛ رجع محمد بن بور على نزوى، وجعل أعزّة أهل عمان أذلة، وقطع الأيدي والأرجل والآذان، وسمل الأعين، وأحل على أهلها النكال والهوان، ودفن الأنهار، وأحرق الكتب………إلخ”.
تحدث محمد بن نور معتمدا على نفس المرجعيات الدينية، التي جاء منها الخطاب الإنساني الأخّاذ للأمام الرحيلي، رفع بن بور راية الدين الإسلامي شعارا لجرائمه، قائلا:
كأني بأهل الدين قد ندبوا لكم
وفارس لا زالت لدى الرجل تطلب
متفاخرا بنسبه العدناني العربي، مضيفا:
فوارس من أبناء عدنان كلها
لملك فتى العباس ترضى وتطلب
يأتي بعده بمئات من الأعوام القائد البرتغالي “افونسو دلبوكيرك” رافعا راية السيد المسيح -عليه السلام- ليكتب في مذكراته، موثقا انتصاره على العمانيين بفخر واعتزاز: “تابع حشدا من النساء كن يتراجعن إلى التلال، وقتل منهن نساء كثيرات، وتعقّب بعض المسلمين الذين احتموا في وادٍ أدنى المدينة، وقتل منهم خلقا كثيرا، كذلك قتل النساء والأطفال الذين كانوا معهم، من دون أن يبقي أحدا، فقد أعدمهم جميعا، في مجزرة هائلة”.
تأتي تجربة الإمام أبو القاسم سعيد بن عبدالله الرحيلي، بعد أكثر من ألف عام على استشهاده، لتذكّر الأنسان في كل أصقاع الأرض ومختلف أزمنته، على روح التسامح الذي قدمتها تجربته الانسانية الكبرى، في التعامل مع أعداءه، هذه التجربة التي جاءت امتدادا تاريخيا رحبا لسلفه الإمام الوارث بن كعب الخروصي، الذي استشهد وهو يحاول إنقاذ سجناءه من سيل جرفهم في السجن بنزوى، كتب نور الدين السالمي واصفا الإمام الرحيلي: “ورأى -رضي الله عنه- قوما كان قد عاقبهم في شيء فرآهم في الشمس، وكان قد أغفلهم أمين السجن، فغضب، وقال: في الشمس أمانتي؟!، أو نحو هذا من كلامه”. القول: بأن الفارق الإنساني بين الإمام الرحيلي وبين محمد بن نور أو دلبوكيرك لا يحقق معادلة صادقة، حيث أن الرحيلي يتصرّف في وطنه، أما هم فكانوا غزاة، وبالتالي فالمقارنة مخطئة؛ افتراضٌ خاطئ من أساسه، من حيث أن الجميع جاء من الجذر ذاته، وهو الجذر الديني، يكمن الفارق بين صدق التجربة والإخلاص لها فقط، بل والتضحية من أجلها، كما هو في حالة الإمام الرحيلي، أو بين ادعائها والكذب عبرها واستغلالها تحقيقا لمصالح استعمارية تتوافق والقتل والنهب في حالتيهما؛ لذلك ليس بغريب استشهاد الإمام الرحيلي جاء وهو بين أبناء وطنه محاولا بالأسلوب ذاته فُض نزاع بينهم كان الناس دون مستوى فضّه إنسانيا، والعمانيون حتى يومنا لا يذهبون إلى مقارنة الإمام الرحيلي إلا بالإمام الجلندي بن مسعود، الذي استشهد قبله بقرون على يدي العباسيين في جلفار، لجمعهما الصفات الثلاث: العلم، والعدل، والشهادة.
مراجع:
- تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، تأليف: نور الدين عبدالله بن حميد السالمي.
- السجل الكامل لأعمال افونسو دلبوكيرك، ترجمة د.عبد الرحمن عبدالله الشيخ، المجمع الثقافي، الامارات العربية المتحدة ٢٠٠٠.
- إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان، الجزء الأول ١٩٩٢، سيف بن حمود البطاشي .مطابع النهضة، سلطنة عمان.
- دراسات في التاريخ العُماني، د.سعيد بن محمد بن سعيد الهاشمي، دار الفرقد ٢.١٣.
- ثلاث رسائل إباضيه، لأبي المنذر بشير بن محمد بن محبوب، ٢.١١ د.م.ج، تحقيق: عبدالرحمن السالمي وليفرد مادلنغ.
- أديب وكاتب عماني، له العديد من الدراسات والدواوين الشعرية، منها: دم العاشق، نذير بفجيعة ما ، أغنية حب إلى ليلى فخرو، الجلاد