الكاتب: بدر بن سالم العبري
الغناء والمعازف في العصر النّبويّ:
الفترة النّبويّة وإن كانت قصيرة زمنيّا لا تتعدى ثلاث وعشرين عاما، إلا أنّها كانت نقطة فاصلة ومهمّة للمجتمع المسلم، فهي أكبر من كونها حركة تجديديّة لأنّها أحدثت تغييرا جوهريا بنزول القرآن الكريم لا زال أثره قويّا حتى يومنا هذا، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله تعالى.
والعصر هو الزَّمن الّذي ينسب إلى ملك أو دولة، أو إلى تطوّرات طبيعيّة أَو اجتماعيّة، كعصر الدّولة العباسيّة، والعصر الحجريّ، وعصر البخار والكهرباء، وعصر الذَّرَّة[1].
وعليه العصر النّبوي هنا يبدأ من بعثة النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – بتأريخ 610م، وحتى وفاته 632م، وهذا هو الأشهر، وقيل يبدأ من تأريخ ولادته 571م وحتى وفاته، وقيل يمتدّ ويدخل فيه عهد الخلفاء الرّاشدين الأربعة، لرواية: أوصيكم بتقوى اللّه، والسّمع والطّاعة، وإن عبد حبشيّ، فإنّه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، واياكم ومحدثات الأمور، فإنّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين، عضّوا عليها بالنّواجذ[2]، وقيل هذه الرّواية متعلقة بالجانب السّياسي، وبعضهم يخصّ الشّيخين أبي بكر[3] [ت 13هـ] وعمر[4] [ت 23هـ]، وبعضهم يدخل مسلك آل البيت، إلا أنّ الأشهر عند الباحثين وضع الخلفاء الأربعة كعصر مستقل، وهو في الجملة لا يهمنا هنا لأنّ التّغيير كان بطيئا فيه، ولاشتغالهم بداية في عهد أبي بكر بتمكين الوضع، ثمّ الأحداث الّتي حدثت في أواخر عهد عثمان[5] [ت 35هـ] وعلي[6] [ت 40هـ] وما تبع ذلك من موقعة الجمل [36هـ] وصفّين [37هـ] والنّهروان [38هـ][7]، وعليه يصعب فصل الخلافة الرّاشدة عن العهد النّبويّ خاصة في مبحثنا هذا، ولهذا لم نلتفت لها، ونخصص لها مبحثا، فهي ضمنا تحمل ثقافة العصر النّبويّ.
كما أنّه عندما نتحدث عن العصر النّبوي فنحن نتحدث عن المدينة بصورة كبيرة لأسباب منها أنّ الرّوايات الاجتماعيّة أرخت للمدينة أكثر من مكة، وللانفتاح المدنيّ في المدينة، ولارتباط التّشريع بالمدينة أكثر من غيرها، ولهذا عرف عن أهل المدينة حبّ الرّقص والغناء خلافا لأهل مكة الّذين اشتهر عنهم الغلظة والجفاء إلى يومنا هذا، وإن كان الحضارمة الّذين استوطنوا مكة كان لهم الأثر الكبير في الجانب الغنائيّ والإنشاد الصّوفيّ خصوصا.
وتعلّق أهل المدينة بالغناء قديم جدا، فقد روت عائشة[8] [ت 57هـ] أنّها زُفّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم –: يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإنّ الأنصار يعجبهم اللّهو، وفي رواية: إنّ الأنصار فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ……. فحيانا وحياكم[9]
وقيل لما وصل النّبيّ المدينة استقبله أهلها وهم يرددون:
طلع البدر علينا …… من ثنيات الوداع[10]
ويرى ابن قيم الجوزيّة[11] [ت 751هـ] أنّ هذا بعد رجوعه من تبوك 9ه[12] ؛ لأنّ ثنيات الوداع إنّما هي من ناحية الشّام، لا يراها القادم إلى مكة من المدينة، ولا يمرّ بها إلا إذا توجه إلى الشّام[13]، وقيل كرر ذلك مرتين، مرّة عند قدومه المدينة، ومرّة عند رجوعه من تبوك، بينما يرى الألبانيّ[14] [ت 1420هـ/ 1999م] أنّ القصة برّمتها غير صحيحة[15]، ولا يهمنا بطبيعة الحال هنا هذا الرّأي؛ لأننا هنا في بيان وجود الإشارة ولو متأخرة وضعا، إلا أنّ حضور الفكرة الإنشاديّة قائمة مبكرا كما هو طبيعة وسجيّة الإنسان، وللشّواهد الأخرى في مرويات التّأريخ والحديث.
وعندما قام الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – بحفر الخندق قام ينشد مع أصحابه هذه الأبيات:
والله لولا الله ما اهتدينا ……… ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا ………. وثبّت الأقدام إذ لاقينا[16]
وكانوا يرددون هذا الدّعاء بأسلوب ومقامات غنائيّة:
اللهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة ……… فارحم الأنصار والمهاجرة[17]
وكانت القيان[18] تغني في العهد النّبويّ، فعن عائشة دخل عليّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وعندي جاريتان تغنيان غناء بعاث[19]، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهزني: مزمارة الشّيطان عند النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم –، فأقبل النّبيّ فقال: دعهما، فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا[20]، ومن القيان المشهورة في هذا العصر سيرين[21] مولاة حسان بن ثابت[22] [ت 80هـ].
أمّا المعازف فأكثرها وجودا في هذا العصر الدّف، لما ورد من الرّخصة في استعماله خصوصا أيام الأفراح، فعن الرّبيع بنت معوذ[23] قالت: جاء النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – يدخل حين بني علي، فجلس على فراشك مجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدّف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهنّ: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذا، وقولي بالّذي تقولين[24].
وفي الجملة آلات المجتمع الجاهليّ هي ذاتها الآت في المجتمع النّبوي، بغض النّظر عن المرويات المصاحبة إباحة أو معا، كما سنراه في التّحليل الفلسفيّ والمجتمعيّ، وأيضا في مبحث مناقشة الأدلة.
يتبع الحلقة الخامسة …….
الهوامش:
[1] المعجم الوسيط، مادّة عصر، [نسخة الكترونيّة].
[2] أخرجه التّرمذيّ باللّفظ نفسه من طريق العرباض بن سارية، المجلد الرّابع، أبواب العلم عن رسول اللّه – صلّى اللّه عليه وسلّم-، باب (16) الأخذ بالسّنة واجتناب البدعة، حديث رقم: 2816؛ وابن ماجه بلفظ قريب من الطّريق نفسه، الجزء الأول، [افتتاح الكتاب في: الإيمان، وفضائل الصّحابة، والعلم]، باب (6) اتباع سنة الخلفاء الرّاشدين المهديين.
[3] عبد الله بن عثمان، بن أبي قحافة العتيق الصّديق، ولد بعد مولد الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم –، أول من أسلم من الرّجال، وأول خليفة بعد النّبيّ، توفي سنة: 13 هـ.
ينظر: السّباعيّ: مصطفى؛ عظماؤنا في التّاريخ، ط المكتب الإسلاميّ، بيروت/ لبنان – دمشق/ سوريا، ص: 110 – 111.
[4] عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، أبو حفص، أمّه من بني مخزوم، ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، كان من أشراف العرب في الجاهلية، وإليه كانت السّفارة في الجاهلية، أسلم سنة ست بعد البعثة، كان إسلامه نصرا، وهجرته جهرا؛ فقد هاجر وسط النّهار جهرا، شهد مع النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – بدرا وأحدا والخندق وبقية المشاهد، بويع بالخلافة بعد وفاة أبي بكر، فملأ الأرض عدلا، وتوسعت الدّولة في عهده، توفي سنة 23هـ إثر طعنة أبي لؤلؤة المجوسي [كما يُروى].
انظر: ابن الأثير: عزّ الدّين أبو الحسن الجزريّ الموصليّ؛ أسد الغابة، ج: 4، ص: 156.
[5] عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية القرشيّ الأمويّ، أبو عمرو، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو ليلى، ذو النّورين، من الطّبقة الأولى، صحابيّ، أحد السّابقين الأولين، والخلفاء الأربعة، توفي سنة: 35 هـ بالمدينة.
ينظر: برنامج الموسوعة الشّاملة، رواة التّهذيبين.
[6] علي بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشيّ، أبو الحسن الهاشميّ، أمير المؤمنين، ابن عم رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-، من السّابقين الأولين، ورجّح جمع أنّه أول من أسلم، من الطبّقة الأولى، صحابيّ، توفي سنة: 40 هـ.
ينظر: برنامج الموسوعة الشّاملة، رواة التّهذيبين.
[7] فصّلنا الوضع السّياسيّ في الخلافة الرّاشدة في بحث: الدّولة في القرآن الكريم، نشرت حلقتان في مجلة مواطن الالكترونيّة حتى كتابة هذا المقال.
[8] عائشة بنت أبي بكر الصّدّيق زوج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، وأمّها أمّ رومان بنت عامر، توفت سنة 57هـ، وقيل 58هـ.
ينظر: ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب،مصدر سابق، ج: 4، ص: 1881 – 1885.
[9] المطغي: عبد العظيم؛ الفراغ وأزمة التّدين عن الشّباب الدّاء والدّواء، مصدر سابق، ص: 106 – 107.
[10] النّدويّ: أبو الحسن؛ السّيرة النّبويّة، ط دار عمر بن الخطاب، 1401هـ/ 1981م، ص: 219 – 220.
[11] محمد بن أبي بكر بن أيوب، والجوزيّة مدرسة في دمشق، كان أبوه مدير وقيما أي قائما فيها، فنسب إليها، درس على ابن تيمية، وأبي الفداء الدّمشقيّ، وأيّوب الكحال وغيرهم، له عشرات المؤلفات من أشهرها زاد المعاد وإغاثة اللّهفان من مصايد الشّيطان، والطّب النّبويّ، توفي سنة: 751هـ/ 1350م.
ينظر: ابن الجوزيّة: شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر؛ زاد المعاد في هدي خير العباد، دار ابن حزم، بيروت/ لبنان، الطّبعة الأولى 1420هـ/ 1999م، ص: 5 – 10 [مقدّمة الكتاب].
[12] وسمعت الشّيخ سعيد بن مبروك القنوبيّ [معاصر] في مقطع يوتيوبيّ كأنّه يميل إلى هذا التّرجيح.
[13] ابن الجوزيّة: شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر؛ زاد المعاد في هدي خير العباد، مصدر سابق، ص: 586.
[14] محمد ناصر الدّين الألبانيّ باحث في شؤون الحديث، ويعدّ من علماء الحديث ذوي الشّهرة في العصر الحديث، له الكثير من الكتب والمصنفات في علم الحديث وغيره، وأشهرها صحيح الجامع، والضّعيف الجامع، وصفة صلاة النّبيّ، توفي سنة: 1420هـ/ 1999م.
ينظر: الموسوعة العالمية ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأربعاء، 27 سبتمبر 2017م، السّاعة الثّامنة والنّصف صباحا.
[15] الألبانيّ: محمد ناصر الدّين، سلسة الأحاديث الضّعيفة، الطّبعة الثّالثة، 1406هـ، ج:2، ص: 63.
[16] أخرجه البخاريّ بلفظ مختلف، كتاب الأدب، باب ما يجوز في الشّعر والرّجز وما يكره فيه، ج: 4، ص: 116.
[17] ابن هشام، عبد الملك بن هشام؛ السّيرة النّبويّة، تحقيق مصطفى السّقا وآخرين، ط مؤسسة علوم القرآن، ج: 2، ص: 496.
[18] وبعضهم يرى أنّ القيان هنا البنات الصّغيرات كما سيأتي في مبحث الأدلة، والأصل عمومه.
[19] يوم من أيام العرب في الجاهلية.
[20] أخرجه البخاريّ باللّفظ نفسه من طريق عائشة، الجزء الأول، كتاب العيدين، باب (2) الحراب والدّرق يوم العيد، حديث رقم: 907.
[21] إحدى الجاريتين اللّتين أهداهما المقوقس 9هـ/ 630م إلى النّبيّ – عليه الصّلاة والسّلام -، وقد وهبها النّبيّ إلى شاعره حسان بن ثابت. [هذه السّنة الاجتماعيّة السّائدة نذكرها هنا من باب الذّكر التّأريخي لا غير، بغض النّظر عن أبعادها التّاريخيّة، ومصاديقها القرآنيّة].
ينظر: الأسد: ناصر الدّين؛ الغناء والقيان في العصر الجاهلي، مصدر سابق، ص: 63.
[22] تقدّم ترجمته.
[23] الرّبيع بنت معوذ ابن عفراء الأنصاريّة، لها صحبة ورواية، روى عنها من التّابعين: سليمان بن يسار، وعباد بن الوليد، ,ابو عبيدة محمد بن عمّار بن ياسر.
ينظر: ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب،مصدر سابق، ج: 4، ص: 1837 – 1848.
[24] رواه البخاريّ باللّفظ والطّريق نفسه، ج: 2، ص: 352، و ج: 9، ص: 166 – 167.