الكاتب : بدر بن سالم العبري
العلامة يوسف بن عبد الله القرضاويّ من مواليد صفط تراب مركز المحلّة الكبرى بمحافظة الغربيّة في مصر، من مواليد عام 1926م، وكانت له علاقة كبيرة مع المفكر الإسلاميّ محمد الغزاليّ [ت 1996م]، وعندما ألف الأخير كتابه السّنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، وحدثت ضجة حوله، طلب من القرضاويّ تأصيل هذا الأمر، فألف كتاب كيف نتعامل مع السّنة النّبوية، ويعتبر كتابه فقه الزّكاة من أفضل ما كتب عن الزّكاة في العصر الحديث، ويعتبر القرضاويّ من أكثر الدّعاة الإسلاميين المعاصرين ممّن جمع بين اللّسان والقلم، فهو متحدث بارع، وخطيب مفوه، وفي الوقت نفسه قلمه سيال، وناقش العديد من القضايا المعاصرة، وكَتَبَ عن حياته في أربع مجلدات كبار بعنوان: ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة، وله ذاكرة قويّة، ويميل إلى الوسطيّة والاعتدال في العديد من آرائه الفقهيّة، وأحدث كتابه الحلال والحرام في الإسلام ضجة كبيرة حينها.
والقرضاويّ توجهه إخوانيّ، وتعرض للسّجن أيام جمال عبد النّاصر [ت 1970م] فهاجر إلى قطر، وظلّ بها إلى اليوم، وهو المفتي الرّسميّ بها، كما أنّه رئيس الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين.
إلا أنّ القرضاويّ كما أحدث ضجّة دينيّة، أحدث أيضا ضجة سياسيّة خاصة بعد ثورات الرّبيع العربيّ 2011م، ممّا جعل بغض الدّول أن تصنفه في قائمة الإرهاب!!
وعلى العموم يبقى القرضاويّ قامة علميّة وفكريّة، أثر في العالم الإسلاميّ بخطبه وكتاباته لأكثر من نصف قرن، ومن هذه المسائل الّتي أثارها مسألة الغناء والموسيقى، والّتي كان الحديث حولها أشبه بالمحرمات، فقد ناقش المسألة في كتابه الحلال والحرام في الإسلام، وكتابه فتاوى معاصرة خصوصا الجزء الثّاني منه، وفي عام 1995م ألف كتاب الإسلام والفنّ، ثمّ طبع باسم فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسّنة.
وعموما القرضاويّ نهج منهج محمد عمارة [معاصر] في كتابه الإسلام والفنون الجميلة في تأصيل فلسفة الجمال قرآنيّا وإسلاميّا، إلا أنّ القرضاويّ أسهب في بيان فلسفة الجمال في الإسلام قرآنا وسنّة، كما أنّه توسع في مبحث الأدلّة ومناقشتها، وزاد إلى الجمالين فنّ الجمال المسموع وفنّ الجمال المرئيّ كالتّصوير؛ زاد فنّ الفكاهة والمرح [الكوميديا]، وفنّ اللّعب.
وكعادة من تساهل في قضيّة الغناء والمعازف ينطلق القرضاويّ في الغريزة الفطريّة للصّوت الحسن، حيث يقول: لـــو تأملنـــا لوجـــدنا حـــب الغنـــاء والطــّـرب للصّـــوت الحســـن يكـــاد يكـــون غريـــزة إنسـانيّة، وفطـرة بشـريّة، حتـى إننـا لنشـاهد الصّـبيّ الرّضـيع فـي مهـده يسـكته الصـّوت الطّيــب عــن بكائــه، و تنصــرف نفســه عمّا يبكيــه إلــى الإصــغاء إليــه، ولــذا تعــوّدت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إنّ الطّيور والبهـائم تتـأثر بحسـن الصّـوت والنّغمـات الموزونـة حتـى قـال الغزالـي [ت 505هـ] فـي الإحيـاء: من لم يحرّكه السّماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الرّوحانيـّة، زائـد في غلظة الطّبع، فـيغلـظ الطّبـع وكثافتـه علـى الجمـال والطّيـور و جميـع البهـائم، إذ الجمـل – مـع بـلادة طبعـه – يتـأثر بالحـداء تـأثر يسـتخف معـه الأحمـال الثّقيلـة، ويستقصـر – لقـوة نشـاطه فـي سـماعه – المسـافات الطّويلـة، و ينبعـث فيـه مـن النّشـاط مـا يسـكره و يولهـه، فتـرى الإبــل إذا ســمعت الحــادي تمــدّ أعناقهــا، و تصــغي إليــه ناصــبة آذانهــا، و تســرع فــي سيرها، حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وهنا يطرح القرضاويّ هذا السّؤال: إذا كان حبّ الغناء غريزة وفطرة فهل جاء الدّين لمحاربة الغرائز والفطر؟ والتّنكيل بها؟ كلا، إنّما جاء لتهـذيبها والسّـمو بهـا، وتوجيههـا التّوجيـه القـويم.
لهذا يقرر القرضاويّ أنّ فلسفة الجمال في القرآن فلسفة جماليّة نفعيّة، وضرب لذلك أمثلة منها قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[2]، وهذا الجزء بيان لجانب المنفعة يتبعه بجزء الجمال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[3].
أيضا يضرب مثالا من خلال قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[4]، فــالرّكوب يحقــق منفعــة ماديّــة مؤكــدة، أمّـا الزّينــة فهــي متعــة جماليــّة فنيــّة.
لهذا يرى القرضاويّ أنّ القرآن معجـزة جماليـّة، إضافة إلى أنّه معجزة عقليّة، فقد أعجـز العـرب بجمـال بيانـه، وروعـة نظمـه وأسـلوبه، و تفرد لحنه وموسيقاه، حتى سماه بعضهم: سحرا.
وبعد الحديث عن الجمال في الإسلام، وعن جماليّة القرآن ينطلق إلى مناقشة الحكم الشّرعيّ للغناء والمعازف، ويعلل سبب الغلو والإفراط في الغناء والمعازف لأنّ اللّهو والفنون يتصل بالشّعور والوجدان أكثر ممّا يتصل بالعقل والفكر، وما كان شأنه كذلك فهو أكثر قبولا للتّطرف والإسراف من جهة، وللتّشدد والتّزمت من جهة ثانية، ويبين سبب تشدد المتأخرين من العلماء والفقهاء مع تساهل المتقدّمين إلى ثلاثة أسباب رئيسة: الأول: نظريّة الأخذ بالأحوط لا بالأيسر، والثّاني: الاغترار بالأحاديث الضّعيفة والموضوعة، والثّالث: ضغط الواقع الغنائيّ بما يلابسـه مـن انحـراف و تجـاوز، كـان لـه أثـره فـي تـرجيح المنـع و التّحـريم.
ويقرر هنا أنّه يجــوز لهــؤلاء أن يشــددوا علــى أنفســهم إذا اقتنعــوا بــذلك، ولكــن الخطــر هنــا أن يعممـوا هـذا التّشـديد علـى المجتمـع كلّـه، ويلزمـوه بـرأي رأوه، فـي أمر عمّـت بـه البلـوى، ويمس حياة النّاس كافة.
لهذا من خلال خبرة القرضاوي واتصاله بالفتاوى، واختلاطه بالشّباب، يرى من المسائل الّتي يكثر حولها الجدل في الوقت المعاصر: ما حكم الغناء والموسيقى في الإسلام، وهنا يقرر القرضاوي أنّ الشّباب وجمهور المسلمين انقسموا ثلاثة أقسام: قسم يفـتح أذنيـه لكـلّ نـوع مـن أنـواع الغنـاء، و لكـلّ لـون مـن ألوان الموسيقى، مدعيّا أنّ ذلك حلال طيب الطّيبات المباحة، وقسم يغلـق الرّاديـو، أو يغلـق أذنيه عنـد سـماع أيـة أغنيـة قـائلا إنّ الغناء مزمار الشـّــيطان، ولهـــو الحـــديث، ويصـــدّ عـــن ذكـــر الله، وعـــن الصّـــلاة، وخاصـــة إذا كـــان المغنـــي امـــرأة، فـــالمرأة – عنـــدهم – صـــوتها عـــورة بغيـــر الغنـــاء، فكيـــف بالغنـــاء؟!! ومن هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقى، حتى المصـاحبة لمقـدمات نشـرات الأخبار!! وقسم وقــف متــرددا بــين الفــريقين؛ ينحــاز إلــى هــؤلاء تــارة، وإلى أولئــك طــورا، ينتظـر القـول الفصـل، والجـواب الشّـافيّ مـن علمـاء الإسـلام فـي هـذا الموضـوع، الـّذي يتعلـق بعواطـف النـّاس وحيـاتهم اليوميّـة، بعـد أن دخلـت الإذاعـة وخصوصـا المســموعة والمرئيّــة – علــى النّــاس بيــوتهم، بجــدّها وهزلهــا، و جــذبت إليهــا أســماعهم بأغانيها وموسيقاها طوعا وكرها.
لهذا وضع القرضاوي جزءا من كتابه في مناقشة الأدلّة، منطلقا من قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، إذ قرر علماء الإسلام أنّ الأصل في الأشـياء الإباحـة، لقولـه تعـالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[5]، ولا تحــريم إلا بــنص صــحيح صــريح مــن كتــاب الله تعـالى، أو سـنة رسـوله – صلّى الله عليه وآله وسلّم – أو إجمـاع ثابـت متـيقن، فـإذا لـم يــرد نــص ولا إجمــاع. أو ورد نــص صــريح غيــر صــحيح، أو صــحيح غيــر صــريح، بتحريم شيء من الأشياء، لم يـؤثر ذلـك فـي حلّـه، وبقـي فـي دائـرة العفـو الواسـعة، قـال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[6]، ولرواية: مـا أحـلّ الله فـي كتابـه فهـو حـلال، ومـا حـرّم فهـو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإنّ الله لم يكن لينسـى شـيئا: وتلا: {وما كان ربك نسيا}.
وبعد مناقشة أدلّة المحرمين خلص إلى أنّ النّصوص التي استدل بها القائلون بالتّحريم إمّا صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح، ولم يسلم حديث واحـد مرفـوع إلـى رسـول الله – صلّى الله عليه وآله وسلّم – يصلح دليلا للتّحـــريم، وكـــل أحـــاديثهم ضـــعّفها جماعـــة مـــن الظّاهريـّــة، والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة.
وبالنّسبة لأدلّة المجيزين قال: ولـو لـم يكــن معنـــا نـــص أو دليـــل واحــد علـــى ذلـــك غيـــر ســوط أدلـــّة التّحـــريم، فكيـــف ومعنـــا نصـوص الإسـلام الصّـحيحة الصّـريحة، وروحـه السّـمحة، و قواعـده العامّـة، ومبادئــه الكليّة.
وختم بحثة في فنّ جمال الصّوت المسموع ببيان قيود السّماع، وأرجعها إلى أربعة: الأول: أن يكون موضوع الغناء متفقا مع أدب الغناء وتعاليمه، فلا يصح مثلا غناء تمجيد الظّلمة، والثّاني: أن لا يكون الأداء متكسرا يهيّج الغرائز، والثّالث: أن لا يقترن بشيء محرم كخمر أو تبرج، والرّابع: عدم الإسراف في الغناء.
يتبع الحلقة [الثّامنة والعشرون] ………………..
الهامش:
[1] للمزيد ينظر: القرضاويّ: يوسف؛ الإسلام والفنّ، مكتبة وهبة/ مصر.
ولترجمته ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: السّبت: 5 إبريل 2018م، السّاعة السّابعة والنّصف صباحا.
[2] النّحل/ 5.
[3] النّحل/ 6.
[4] النّحل/ 8.
[5] البقرة/ 29.
[6] الأنعام/ 119.