الكاتب: جمال النوفلي
لا أعرف كم هو حجم هذه اللوحة المعروضة في مطار مسقط الدولي الجديد، التي أثارت غضبنا وغضب المسافرين؟ ولا أعرف كم هو المبلغ الذي سدده المطار لهذه الفنانة من أجل عرض لوحتها في المطار؟ ولماذا هذه اللوحة بالذات؟ لماذا؟ لا أعرف؟. أليس هناك لوحات جميلة لفنانين عمانيين جميلين يمكن عرضها في المطار بدلا من هذه؟ ليتني أعرف كيف تقدر اللوحات هل تقدر أسعارها بناء على حجمها أم بناء على اسم صاحبها ام بناء على ماذا؟ لا أعرف، ولماذا بعض اللوحات أغلى من بعض؟ لا أعرف. ولماذا يكلف بعض الناس أنفسهم بالذهاب الى صالات المعارض التشكيلية لقضاء ساعات يشاهدون رسومات فنية هي عبارة عن خربشات وتلاعب بألوان؟ لا أعرف لا أعرف، لكنني متأكد من ان هناك أموالا طارت وأفواها ضحكت وجيوبا امتلأت وبطونا شعبت.
كل تلك الأسئلة لا أعرف أجوبتها ولكنني – ولا أخفي عليكم- أجد شيئا كثيراً من الجمال والروعة في تلك اللوحة، وأرجو أن لا تعجلوا بالحكم علي وأن تصغوا الي ولو قليلا.. ، سأقوله بعجالة، الفن التشكيلي هو أحد أهم واقدم الفنون الحضارية والإنسانية التي عرفها الانسان منذ القدم وحتى الان، أليس كذلك؟، فأغلب ما تركته الحضارات القديمة هو عبارة عن فنون ورسومات تركها الانسان الأول في الكهوف أو نحتها في الصخور، فلو زرتم مثلا المتحف الوطني العماني لاكتشفتم أننا عرفنا كثيرا من أسلوب حياة العمانيين الأوائل في العصور الحجرية القديمة من خلال النقوش والرسومات التي نقشوها في الصخور أو ما تركوه من أدوات في المقابر وتحت الاطمار، وكلها تعبر عن أشياء بسيطة جدا مثلا كأشكال لأشخاص وحيوانات وأدوات، وكلها بهذا الشكل سواء تلك التي اكتشفت في شصر بمحافظة ظفار او تلك التي اكتشفت في مدحا بمحافظة مسندم أو بات في الظاهرة أو في بهلا أو رأس الجنز بالشرقية أو رأس الحمراء والوطية بمسقط، كلها تعبر عن مخزون ثقافي وحضاري نفخر به وتحسدنا عليها دول غنية ودول كبيرة أنتم تعرفونها. إن أولئك العمانيين الأوائل الذين تركوا لنا هذه الرسومات على الصخور قد تركوها لأسباب لا أعرفها، ربما كانت مجرد ألعاب وهوايات لبعض فناني عصرهم الذين لم يعرهم أحد أي اهتمام آنذاك.
ما أريد ان أصل اليه ان هذا الفن هو فن أصيل ومهم، وأنه مر بمراحل عديدة وطويلة حتى وصل إلينا بالهيئة والشكل الذي هو عليه الان والذي تطور عبر المدارس الفلسفية والعالمية، لأن الفلسفة..، الفلسفة تدرس علم الجمال، وتقدم فيه نظريات تنعكس على الفنانين أنفسهم، سواء رسامين أو مصورين أو شعراء أو قاصين أو مغنين أو راقصين أو ممثلين، وهؤلاء بدورهم يقدمون أعمالهم وفق مدارس متنوعة ومتجددة لها أسسها ومميزاتها.
المدرسة التي تنتمي إليها لوحة المطار “المشؤومة” تدعى بالمدرسة التجريدية أي مدرسة الرسم التجريدي هو الرسم الذي يرسم الأشياء ويصورها بشكل يختلف عما هي عليه في الواقع والحقيقة، فعندما يرسم منزلا أو شجرة فإنه لا يرسمها بواقعية وكما هي عليه في الواقع وإنما يحاول أن يبتكر شكلا جديلا مشابها ومعبرا عن الفكرة التي يريد أن يوصلها الفنان الى المتلقي، لكنك ستعرف حتما عندما تراها أنها شجرة أو منزل. كما تنتمي اللوحة أيضا في بعض ملامحها الى المدرسة التعبيرية والتي تعنى كثيرا بإبراز المشاعر والعواطف ومن أجل ذلك تحقيق ذلك فإنها تلجأ الى التلاعب وتشويه الصورة الحقيقية للشيء مثل تشويه الوجوه والاجساد.
لهذا نرى في لوحة المطار “المشؤومة” توافر هذه العناصر لهاتين المدرستين، مع أني أنوه لكم أن الفنان التشكيلي لهذا النوع من المدارس خاصة لا يسعى الى رسم صورة جميلة مبهجة أو بمعنى آخر ليس إبهاجنا وإسعادنا مقصدا وغاية في فنه، فجمال الفن يقاس بمقدار وعظم الأثر الذي يتركه في نفوس متلقيه، سواء كان حبا او حزنا أو بهجة أو نفورا أو اعتبارا أو رعبا، طبعا هناك آراء أخرى في المسألة.
لهذا لو أعدنا النظر في لوحة المطار للاحظنا أن هناك اشتغالا كثيرا ودقيقا على التوزيع سواء توزيع المساحات في اللوحة ككل أو توزيع الألوان في الصورة، كما أن هناك استحضارا للعوامل الثقافية والحضارية المؤثرة في الشخصية العمانية وإبرازا للتنوع الفكري والعرقي والثقافي… ، فعندما تطالع الأشخاص المرسومين في اللوحة ستشعر بنوع من الرابطة بينهم فهل يمكن أن يكونوا أسرة واحدة مثلا؟ ثم كيف هي ملابسهم ومن أي نوع قمشاها وكيف هو تطريزها ونقشها؟ هل يعطي هذا معنى للمشاهد؟ ثم ترك كل ذلك وتلاحظ ألوانهم، ألوان ملابسهم، ألوان الخلفية من ورائهم، هل هم يقفون في منزل أم خارجا في العراء؟ ولماذا يقفون بهذا الترتيب الغريب؟
كما ان المتمعن سيلاحظ الاشتغال المكرز والمخادع على الوجوه، فمن النظرة الأولى قد يعتقد أن هذه الوجوه تركت مصفحة مستوية متماهية بلون واحد لا معنى لها وكأنها مدغمة باللون البني الفاتح، ولكن عند التأمل سيلاحظ ان هذه الوجوه لها ملامح وأن كل وجه له صورة ومشاعر وعواطف حتى أن بعضها بدا وكأنه يتحدث الى الاخر، ثم إذا تأملت كثيرا سيكون بإمكانك أن تقدر أعمار بعضهم ومشاعرهم ومشاكلهم، كما ستلاحظ أن بعض الايادي مفقودة، أما من حيث الإضاءة فربما لم يكن اتجاه الإضاءة واضحا وهو عنصر مهم للرسام حتى يعطي اللوحة أكثر واقعية ومنطقية، لكن ربما يحسب للفنانة انها أهملت إضاءة اللوحة لتجعل التركيز والسطوع يبرز من الأوان المختلفة المتألقة في ملابس النساء الذي أضاف سحرا وجمالا للوحة وأيضا أضاف هوية، لأن تداخل الألوان وسطوعها هو أحد مميزات الثيمة العمانية في لباس المرأة والرجل وحتى زينة الاعراس والاواني القديمة والمصابيح والأسواق.
لهذا جاءت لهذه اللوحة برمزيتها المعبرة صورة نموذجية للثقافة العمانية بمتعددها الفكري والحضاري، ثم أن هناك رسالة جميلة يمكن أن يفهمها القادم الى عمان من هذه اللوحة، اللوحة مكونة من ماذا؟، إنها مكونة مجموعة من الأشخاص الذي يمكن أن يكونوا أقارب من عائلة واحدة وهم يصطفون الان جميعهم صفا واحدا وهذا نادر ما يحدث لدى العمانيين الا في مناسبة مهمة، ثم ملاحظة اختلاط مشاعرهم وعواطفهم فهناك من يبدو عليه الهدوء وهناك يظهر القلق والتردد عليه وهناك الأطفال الذي لا يكفون من تكرار التساؤلات، وجميعهم ينظر الى الامام وكأنهم ينتظرون قدوم أحد ما، قد يكون هذا القادم أخا غائبا أو أختا أو ابنا أو أبا أو اما أو عمة أو خالة، أو قد يكون هذا الغائب هو ضيفا أو صديقا، فهم يصطفون لاستقباله وينتظرون دخوله بفارغ الصبر وقد ارتدوا أزياءهم العمانية الانيقة الملونة.. .
ثم لا تلاحظ أيها القارئ ان اللوحة ممتلئة بهؤلاء الأشخاص المصطفين الا مساحة صغيرة خالية في أقصى اليسار، لماذا؟. لقد تركوها عمدا لقد تركوها لهذا المسافر القادم أو العائد لكي يخبروه بكل حب وهدوء أنك مهما تغيب ومهما تكون ومهما تفكر ومهما تسافر ومهما تتغير فتأكد أن هناك مساحة لك بيننا في عمان وبين العمانيين.
فمرحبا بك في عمان ارض الحضارة والتسامح والبطولات.