الكاتب: خالد محمد عبده
رغّبت صورُ الموالد الصوفية البعضَ في الاهتمام بالتصوف، وإن كان اهتمامًا بما هو شعبي أكثر مما هو ديني.. يبدو هذا بالنسبة لي شيئًا من الجميل أن يعود إليه المصري اليوم، فهو لم يعد بسبب ابتلاع الغريب له وغيابه معه يعرف الكثير عما جسدته الشاشات بألوانها البيضاء والسوداء، أضحى كل شيء ملوّنا ويحمل زخرفًا يبعد روحه عن الحياة ولا يشبعها ويصيبها بالملل والفتور.
صورة الدرويش الذي يذكر الله وتُظهر شفتاه ما صدر عن قلبه ولمس فؤاده من ذكر ربّه اللطيف الجميل صورة مسعدة، وإن لم ينطق من أسماء ربّه سوى كلمة (هُو) هو الله الرحمن الرحيم، تجد جزءًا من ألف جزء من رحمته في عطاء البسطاء في الموالد، فالكلُّ يبذل من قلبه وما أجمل ما يخرج من القلب ويصل إلى القلب، قولاً كان أو عملاً، وقديمًا أدرك الصوفية هذا المعنى وبشّروا به، فقال النفّري رحماني العبارة: (قيمة المرء حديث قلبه). وكل قلب يطعَمُ ما يشبعه من معاني افتقد إليها أو انشغل بها.
إنكار أفعال البسطاء في الموالد الصوفية
في زيارتي الأخيرة للسيد البدوي اقترب مني بعض من ليس له صلة بهذه التظاهرات المبهجة للفقراء والثكالى المهدورين، نظر إلى الأرض ولم ينظر إلى السماء، كما ينظر البعض إلى مخلّفات الحجيج وهم مغادرون جبل عرفات، من ينظر للأرض وللوراء سيجد الكثير من الأجساد والأمراض بالطبع، لذا يرفع الدرويش يدًا للسماء لتعلو روحه، ويخفض الأخرى لتهبط الطينة وتنمحي في الطين، فما هبط من المحلِ الأرفع يشتاق إلى السفر من جديد إلى ربّه الأعلى.
لم أفكّرْ ولو للحظة أن أبرهن على صحة أو خطأ أي فعل أشاهده وينكره من معي من سلوك البسطاء والمساكين، فنحن لم نقدّم لهؤلاء شيئًا نافعًا في حياتهم حتى نخدش ما بقي لهم من هامش حرية لا يُرى، يمارسون فيه ما قُدّر لهم أن يمارسوه، نعم أن أؤمن بالجبر لا الاختيار، فمن يسمع خطب الجمعة في بلادنا والأدعية التي تكرر ليل نهار سيدرك أننا مجبرون من لحظة الميلاد هنا حتى الممات، وما بينهما نكابد فيه حتى يحيا جزء منّا عزّ عليه الجبر ولم يقنع به وأراد أن يمارس فضيلة الاختيار.
السلوك والمحبة
قبّل رجلٌ عتبة المقام، وأحدهم مسح بثيابه مقصورة المقام، وأحدهم سجد، وأحدهم صرخ، وأحدهم طمع في مال يمكن حصره في ثانية واحدة فأخذه من غيره، وأحدهم قبّل امرأة في الزحام، وأحدهم تعاطى المخدرات، وأحدهم ترشده عصاه ويسعى، ورغم كف بصره لا تكف روحه عن السعي، وأحدهم أعطانا طعامًا طعمه لا يُنسى، وأحدهم وزّع الماء. فعلَ الجميعُ ما يفعله الشخص على مدار حياته في شبابه ومراهقته وهدوئه وسكينته وضجره وغضبه، بعض الأفعال ينكرها العاقل الواعي، ويحاول الصوفية دفاعًا عن كيانهم ضد الخصوم المتربصين بهم أن ينزّهوا جناب الطرائق عن هذه الأفعال، كما يفعل المسلم اليوم حينما يعلّق أن أفعال المسلمين لا تمثّل الإسلام، ولا يمثّل الإسلام زيد أو عمرو أو خالد وإن آمنت ملايين من المسلمين بما يقوله زيد ويعلنه عمرو ويصرخ به خالد!
إن فعل البسطاء حقًّا لا يمسّ جناب أحدٍ ولا علاقة له بي أو بك ولا ينتظر تقييمك بالسلب أو الإيجاب، فحياته تستمر وأنت على وجه الحقيقة لا تعبأ به إلا مجرد لحظة .. هذه اللحظة تتمثّل في إنكارك عليه، وتقييمك له، أو في أحسن الأحوال تدعو له أو تدعو عليه كما يفعل خطيب المنبر في دعائه في يوم الجمعة على كل مخالف عرفه أو لم يعرفه. من السهل أن نحاكم أهل المولد، لكن من الصعب أن نبحث عن سبل الحياة.
يسأل أحدهم: هل ابتلاك ربك ونزلت إلى أحد الميادين التي تقام فيها هذه البدعة الحسنة، وعلمت بأحد أو بكل حواسك الخمس من بصر وسمع ولمس وتذوق وشم ماذا يحدث؟ هل بالفعل كما يقال إن الموالد والأضرحة هما شريان حياة الصوفية، فإذا انقطعا اضمحل التصوف وهلك الصوفية؟! ماذا سيخسر التصوف الإسلامي لو لم توجد فيه موالد أو أضرحة، وماذا سيكسب مقابل هذا؟ هل أصبح التصوف – ذلك المشرب القلبى والروحى الجميل الذى ينبغى للمسلم أن يأخذ بحظه منه – قائمًا على صناديق النذور، وجثث الموتى، ومبررات المتفلسفة وأدعياء التصوف غير المنطقية عندما يتشدقون بفوائد الموالد الاجتماعية والاقتصادية؟
تتذوق العين والحواس جميعها ما تفتقر إليه، وكل عين ترى ما تبحث عنه، لكن ليست الموالد شريان حياة الصوفية، وليست الأضرحة وحدها مقامات الصوفية، ولا يمكن تلخيص الصوفية في إنكار شخص كما لا يمكن قبول كل سلوك صادر عنهم.
الأضرحة براحُ الحُريّة كما أراه تدخل مهمومًا قلقًا متوترًا .. تخرج هادئًا .. الأضرحة مساحة بعيدة عن سلطة الواجب والإلزامي والقهر والبروتكول والكلام والتنظير .. لكلٍّ لغته التي يتقنها ولا يفرض على أحد أن يتواصل بها، يتواصل أحدهم بإنشاد أبيات مهداة لصاحب الضريح، وأحدهم يمدح المصطفى، وأحدهم يُسبّح، وأحدهم يقرأ القرآن ، وأحدهم يُحدّث صاحبه، وأحدهم يدخل الضريح لعدم استطاعته أن يبكي خارجها جفّت دموع عينه من الزحام، يريد مكانًا لا يرى فيه زحام الأجساد وانتهاكها لها، فيرى نفسه في خلوة في الضريح وإن كان حوله مئات البشر، لا ينشغل بأحد، تتساقط دموع عينه دون إرادة منه، يشعر بالخجل والندم أمام طُهر صاحب الضريح، يشعر أن صاحب الضريح يُحدّثه ويخفف عنه آلامه ويمحو عنه كل تعب، ويعتبر كلّ ما قاله سرًّا مكتومًا.
أحدهم يسند ظهره المتقوّس على جانب الضريح لا ليعتدل بل لأنه لم يعد يملك آلة للنطق أو الاعتراض، استسلم من الحوادث والفاجعات، ينظر وينتظر مدد السماء، أحدهم ينام من تعبه، وأحدهم يُطعم غيره، أو يسقيه شربة ماء، أحدهم يوزّع الحلوى، أحدهم يُظهر محبته ولا يخجل من تذكير الحضور بمقام صاحب المكان أو صاحبته الرفيع.. لا أحد من هؤلاء يؤذي أحدًا .. ولا يؤخر حضارة .. ولا يدّعي أنه عالم عليه أن يُصلح العالم.. العلماء خارج هذا المكان جدير بهم أن يتخلّقوا بأخلاق الإخلاص والرحمة وأن يقدّموا للإنسانية ما يفيد، فلولا تقاعس كثير منهم وانشغاله بالكلام لما وصلنا إلى هذه الحال.