الكاتب: محمد العامري *
أوعزَ مدير المبيعات إلى خبير التفاوض كتابيا بأن يقوم في الغد بالتفاوض مع وفد شركة كبرى في مجال الإلكترونيات يزور السلطنة حاليا، فبدلا من أن يقوم خبير التفاوض بالرد كتابيا فضَّل مقابلة المدير شخصيا لإبداء وجهة نظره، وبعد الترحيب دار الحوار الآتي:
-أستاذ هل لي أن أعرف كم تبلغ قيمة الصفقة؟
–كما أخبرتك في الخطاب ! حوالي مليون وستمائة ألف ريال عُماني..
-عظيم جدا، أعتقد أن شركتنا ستتعاقد لأول مرة بمثل هذا القيمة المرتفعة.
–نعم بالضبط، لذلك أنا حريص جدا على إتمامها.
-أنا أتفهم ذلك تماما أستاذ، وأعتقد أن ما يزيد الأمر استعجالا هو أن وفد الشركة سيسافر بعد غد، أليس كذلك؟
–بلى يا خبيرنا، وأنا أعوِّل عليك.
-لأني أتفهم حرصك على إتمام الصفقة وتعويلك عليّ، فإني سأبذل قصارى ما أستطيع – إن شاء الله – هل ثمة معلومات متوفرة غير الملف المرفق؟
–أنا أدرك أن الملف لا يفي بالغرض لافتقاره للمعلومات الشاملة، كما أعلم عادتك جيدا في الإلمام بكل شاردة وواردة قبل أية عملية تفاوضية، ولكن كما ترى، فإن موعد سفر الوفد هو ما يضيق الخناق علينا.
-كم أقدّر احترامك أستاذ لاستراتيجيتي التفاوضية، ماذا لو سافرتُ أنا إليهم خلال شهر من الآن؟ فبالرغم من قوة موقف الشركة المذكورة من حيث التفاوض على أرضهم غير أن ذلك من شأنه أن يمنحني فرصة كبيرة لجمع أكبر قدر من المعلومات عن الصفقة وتحليلها من ناحية، والتعرف على الشركة عن كثب في فرعها الرئيسي من ناحية أخرى؛ الأمر الذي يُكسبني قوة تفاوضية عُظمى.
–كنتُ واثقا أنك ستبتكر المخرج الحكيم بدلا من الوقوع في خطإ جسيم؛ لأن ضيق الوقت كان سيجبرنا على القبول بأي عرض تصر الشركة عليه مهما كان مبالغا فيه، فهذه الصفقة محلُّ اهتمام من إدارتنا العليا، حسنا إذن على بركة الله، ونسبة الـ (٥٪) محفوظة لك بتوصية شخصية من رئيس مجلس الإدارة.
-أنا في غاية الامتنان أستاذ، أستأذنكم.
***
يقول المثل الصيني: لا تنتظر أن تعطش حتى تحفر بئرا !
سوف تجد في هذا المقال إجابة نموذجية عن السؤال الآتي:
العملية التفاوضية.. منفعلة أم فاعلة؟!
أعتقد أنه على (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف أن يستعد باحتراف قبل الدخول في أية عملية (تفاوضية/إقناعية).
وسيجيب المقال على السؤال المطروح من خلال المحورين الآتيين:
١)ما الفرق بين المنفعلة والفاعلة في العملية (التفاوضية/الإقناعية)؟
٢)كيف توظِّف الفاعلية في العملية (التفاوضية/الإقناعية) باحترافية؟
***
١)ما الفرق بين المنفعلة والفاعلة في العملية (التفاوضية/الإقناعية) ؟
تخيّل معي أن نادل مقهى ما أعطاك قائمة بأسماء الفطائر بدون أية إشارة إلى محتوياتها، فاخترت – على غير بصيرة – واحدة منها، فستبقى بعدها في قلق بشأن الطعم المجهول الذي ينتظرك، فواردٌ جدا أن تكون قضمتك الأولى من تلك الفطيرة هي آخر قضمة؛ لعدم تقبلك طعمَها اللاذع !!
بينما..
لو زرت أحد المقاهي التي تتيح لك اختيار مكونات فطيرتك مباشرة على مرأى منك، فإنه ليس للقلق محلٌّ هنا، وكلنا نجزم أنك ستستمتع بالقضمة الأخيرة من فطيرتك كما استمتعت بالقضمة الأولى تماما..
ما علاقة الفطائر بالمنفعلة والفاعلة يا ترى؟!
تعالوا نستحضر سويا موقف الفطيرة المجهولة، إن النتيجة الواردة وغير المقبولة هي إفراز طبيعي لاختيار غير مدروس وكأنك تائه تدخل غابة مظلمة مكتظة بالحيوانات المفترسة، لا تدري أيها سيهجم عليك أولا ومن أي جهة، وليس لديك حيلة غير التفكير بردة فعلك عندما تكون قد استحلت أصلا لقمةً سائغةً في معدة أحد تلك الوحوش الضارية، فهل يجدي ذلك نفعا؟!
هذا، هو تماما المقصود بالتحرك المنفعل، فهو تحرك غير مبني على خطة مدروسة ألبتة، وإنما تخبط عشواء، ويتم فيه إظهار ردة الفعل ارتجاليا بعدما يتم التفاجؤ بصدور فعل من قِبل الطرف الآخر، فهو تحرك منفعلٌ لفعل الطرف الآخر.
أما في موقف الفطيرة المعلومة فإن الطعم الرائع هو نتيجة طبيعية متوقعة تماما؛ بسبب الاختيار المنتقى بعناية فائقة، وكأنك صياد ماهر تعي جيدا ماهية منطقة صيدك من حيث موقعها ومساحتها وأنواع الحيوانات الموجودة فيها وأماكن تمركزها والزوايا الفُضلى لاصطيادها إلى آخر تلك المعطيات التي تزوِّدك برؤية هليوكبترية تتيح لك رؤية شمولية.
وهذا هو بالضبط المقصود بالتحرك الفاعل، فهو تحرك مبني على استراتيجية معدة سلفًا، وليس ارتجاليا يترقّب صدور الفعل المجهول لكي يتصرف، فهو إذن على النقيض من التحرك المنفعل.
ما ذُكِر توًّا هو عينُه دور كلٍّ من المنفعلة والفاعلة في العملية (التفاوضية/الإقناعية) فإن كانت عمليتك منفعلة فهذا يعني أنك تضع يدك على خدك مرتقبا مجيء المجهول من قِبل المستهدَف (مَن تتفاوض معه) ثم تقرر بعدها كيف ستتصرف حيال ذلك، فلا تقوم بأي استعداد، فكلُّ همك هو الحصول على ما تريد فحسب، لكن كيف تقوم بذلك وما هي التنازلات المتاحة؟ وما هو الحد الأدنى الذي لا يمكن تجاوزه إلى آخر تلك النقاط المهمة فإنك تتركه لتصاريف القدر والبركة والظروف التي ستكتنف عمليتك حينئذ، وبكل بساطة فإننا يمكن أن نتنبأ بالمآل المتهافت للأداء المنفعل مهما كنت (مفاوِضا/مُقْنِعًا) محترفا.
في حين إن كانت عمليتك (التفاوضية/الإقناعية) فاعلة، فهذا مثله مثل مشروع تجاري مسبوق بدراسة جدوى محترفة، مما يعني أن خارطة الطريق لديك واضحة المعالم بأدق تفاصيلها، لن أجرؤ على القول – لأني أتحرى الصدق معك – إن نسبة وضوحها تصل إلى (١٠٠٪) فهذا أمر يكاد يكون محالا؛ لسبب وجيه وهو عدم توفر الإدراك اليقيني لمسار المستهدَف من جهة والمفاجآت التي لم تُحسب من جهة أخرى، ومع ذلك فإن النسبة تبقى مرتفعة بشكل يدعو للدهشة، ويمكن تعزيزها بعدة عوامل سيتم التطرق لها بين ثنايا المحور الثاني.
٢)كيف توظِّف الفاعلية في العملية (التفاوضية/الإقناعية) باحترافية؟
إن كانت ضرورة الاستعداد المحكم قبل الشروع في أية عملية (تفاوضية/إقناعية) دائرةَ التقاءٍ بيننا، وتؤمن بأن ذلك يُعدُّ حجر الزاوية لنجاحها؛ لِما تكشفه من معظم الاحتمالات الوارد حدوثها، فيتم التجهز لها مسبقًا، فهذا يعني أنه آن الأوان لنأخذ بأيدي بعضنا البعض فنتعمق أكثر في الموضوع.
أنا كلّي حماس.. ماذا عنك؟
لقد توصّلتُ من خلال العديد من التجارب طيلة ثلاث سنوات مضت من الآن إلى نموذج أراه جديرا باهتمامك لتختبر فاعليته بنفسك، وأطلقتُ عليه: سُباعية التهيئة (التفاوضية/الإقناعية)، (٧ ت) لأنه مكون من سبع كلمات، – مبدوءة بحرف التاء – تمثل كلٌّ منها مرحلة من مراحل التهيئة (التفاوضية/الإقناعية) وهي بالترتيب الآتي:
١-التتبع
٢-التحليل
٣-التنبؤ
٤-التخطيط
٥-التجريب
٦-التوقع
٧-التقييم
وفيما يلي نحاول اسْتِكْناه كل مرحلة على حدة:
١-التتبع.
وأقصد به رصد جميع المعلومات المتاحة عن كل ما يتصل بالعملية (التفاوضية/الإقناعية) مع الأخذ في الاعتبار أن أهميتها تتفاوت بحسب حيثيات العملية من حيث نوعُها وأطرافها وحجمها …إلخ ومع ذلك تبقى في غاية الأهمية في إطارها العام، ونذكر تمثيلا لا حصرا أهم النقاط الواجب تتبع المعلومات عنها:
أـ معرفة الذات، إن معرفة (المفاوِض/المُقْنِع) لنفسه يُعدُّ أُولى تلك النقاط على الإطلاق، فمن لا يعرف نفسه قوةً وضعفًا فلن يتقن إدارة نفسه، ومن لا يدير نفسه يكون عاجزا عن إدارة غيره، فتنفرط العملية (التفاوضية/الإقناعية) من بين أصابعه، وهذا الأمر مما يغفل عنه الكثير من (المفاوضين/المقنِعين).
ب- معرفة المستهدَف، فمن البدَهي أن تتطرق عملية التتبع إلى جمع المعلومات كافة عن المستهدَف، فكلما كان حجم العملية (التفاوضية/الإقناعية) كبيرا استلزم الاهتمام بأدق التفاصيل حتى الشخصية منها، فمن شأن تلك التفاصيل أن تشكِّل علامة فارقة في نقطةٍ ما من العملية.
ج- معرفة الهدف، فلعل من نافلة القول أن نلفت الانتباه لضرورة الاهتمام بتتبع كل شاردة وواردة عن الموضوع محل العملية (التفاوضية/الإقناعية) لأنها صلب ما نريد الحصول عليه، وعموما فأنت عزيزي (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف من النباهة بمكان بحيث تدرك أن تفاصيل كل عملية تختلف عن أختها، فالدخول في تفاوض تجاري ليس كالدخول في تفاوض أُسري.
وأختم الحديث عن هذه المرحلة بالتأكيد على خطورتها، بسبب ما تنطوي عليه من هيمنةٍ على بقية المراحل، فأي خطأ معلوماتي تم جمعه أو حصول فجوة معلوماتية فإن المراحل اللاحقة ستتضرر بمقدار حجم ذلك الخطأ أو تلك الفجوة؛ إذْ هي المادة الخام التي يتم النحت فيها.
٢- التحليل.
إن التحليل في طابعه الاعتيادي هو عملية ترشيحية للمادة الخام المجموعة تصنيفًا وإيجادًا للروابط ومآلا – أي ما تؤول إليه – فالتحليل أقرب ما يكون لطاولة التشريح التي يتم فيها العناية بجميع المعطيات المتاحة، لينتقل (المفاوِض/المُقْنِع) المحترف من مجرد معلومات خام إلى بيانات متماسكة ذات دلالات واضحة يمكن البناء عليها في المراحل اللاحقة..
وكما نلاحظ فإن مرحلة التحليل ترتكز بشكل أساسي على التتبع، فإن زوَّدَنا التتبع بمعطيات مغلوطة كانت نتيجة التحليل بعيدة كل البعد عن الواقع (التفاوضي/الإقناعي) بعدئذ، فيستحيل الجهد المضني هباءً منثورًا لا طائل من ورائه غير المشقة والتعب !
ولئن كانت مرحلة التتبع ذات أثر بالغ على بقية المراحل، فإن مرحلة التحليل لا تقل شأوًا، فمتى كان التحليل عميقا ألقى بظلاله الوارفة على بقية المراحل، أما إن كان سطحيا ففضلا عن أنه يحيد بالعملية (التفاوضية/الإقناعية) للمسار الخطإ، فإن المادة المجموعة تغدو كالبذرة التي لم تجد غير تربة فاسدة فلا تتوقع أن تثمر يوما ما !
وترقبوا الأكثر عمقا في الجزء الثاني من المقال..
*كاتب متخصص في التنمية البشرية، مؤسس فرضية الإقناع السري ( SPx8) مسجلة لدى دائرة الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة، ماجستير لغة عربية، مدرب في التفاوض والإقناع، ممارس معتمد من المركز الأمريكي للتنويم الإيحائي