الغناء والمعازف في العصور القديمة
(2 – 2)
تحدثنا في الحلقة الماضية عن تأريخية الغناء في الحضارة المصريّة وما قبلها، ونتحدث اليوم عن موقعه في الحضارات ما بعد الحضارة المصريّة، ونبدأ بالحضارة الإغريقيّة[1]، حيث انتقل الغناء في هذه الحضارة انتقالا كبيرا، فبعدما كان فنا تطبيقيا أصبح ذا قواعد نظريّة، جعلت من هذا المجال علما له أصوله ومبادؤه وتفريعاته.
والقدماء من اليونانيين أول من وضع قواعد العلم والمعرفة بهذه الصّناعة، وكان علماؤهم يعدّون معرفتهم بالموسيقى من مستلزمات التّعاليم النّظريّة والفلسفيّة؛ لارتباطها بالعلوم الطّبيعيّة، وعلوم المنطق، وإلى هؤلاء يرجع الفضل في تعريف أصول مبادئ هذا العلم[2].
وعندما انتصرت المسيحيّة[3] عام 313م على الوثنيّة في الدّولة الرّومانيّة أثرت في الحياة الرّوحية والاجتماعيّة والفلسفيّة لهذه الدّولة، وسيسقط أثره على الغناء والموسيقى، حيث اتخذت المسيحية الغناء مكانة هامّة في ممارسة الطّقوس والشّعائر[4].
فالنّصرانيّة أثرت في تقدّم الموسيقى لاهتمامها بالجانب العاطفيّ، كما أنّها تأثرت هي ذاتها، حيث دخل إليها بعض الشّعائر الوثنيّة، عن طريق التّهليلات المصحوبة أحيانا بالموسيقى، مثل ما يعرف بهللوايا، والّتي أول من ألفها منهم رهبان الصّحراء في مصر وسورية[5].
ويشير بعض الباحثين إلى أنّ العود تأخر دخوله في الدّولة الرّومانيّة إلى القرن السّادس عشر، حيث دخل عن طريق العرب[6]، بيد أنّ الرّوايات تشير أنّ العود كان موجودا في الدّولة الرّومانيّة منذ فترة مبكرة، ومن ذلك رواية الصّفديّ[7] [ت 764هـ] أنّ الأسكندر[8] [ت 323 ق م] كان في صحبته عود لما كان يطوف بالبلاد، يضرب به تلميذا لأرسطوطاليس[9] [ت 322 ق م] مؤدب الإسكندر، فإذا كان عنده ما يغيّر مزاجه من انقباض أو حدث له كسل دعا ذلك التّلميذ، فأحضر له العود، فضرب به، فيزول ما يجده[10]، وممّا يدلّ على ضعفه أيضا أنّ العود من أساس الآلات والصّناعة وأقدمها وأسهلها.
والحضارة الفارسيّة لم يكن الغناء والموسيقى فيها أقلّ اهتماما من الحضارة الرّومانيّة؛ وذلك لأنّ الموسيقى كانت جزءا من شعائرهم التّعبديّة، وفي بلاد فارس حفل البلاط الفارسيّ بالقيان يعزفن ويغنين، وكان ملوك الفرس يرفعون الموسيقيين، ويقال إنّهم هم الّذين صنعوا النّاي والحنك والمربع والمزهر[11].
وسنرى أنّ العرب تأثروا تأثرا كبيرا بفلاسفة اليونان، خصوصا في العصر العباسيّ، نتيجة ترجمة الكتب اليونانيّة إلى العربيّة، فنشأ عندهم فلاسفة برعوا في الموسيقى كالفارابيّ[12] [ت 339هـ]، وابن سينا[13] [ت 428هـ]، والصّفديّ [ت 764هـ]، ويمكن أن يقال إنّهم استفادوا من الحضارة الفارسيّة في الآلات، ومن الرّومان أصول ومبادئ العلم.
واعتبر الفرس أساتذة العرب، فقد نقلوا منهم الآلات والألحان والمصطلحات الموسيقيّة، الّتي ما يزال منها موجودا إلى اليوم، بل حتى النّغمات المكونة للمقام لا زالت كلّها فارسيّة النّطق مثل الدّوكاة[14].
وبلا شك أنّ الموسيقى والغناء كان حاضرا أيضا في الحضارات البابليّة والأشوريّة والكلدانيّة وحضارتي مجان ودلمون[15]، لعلاقتهم بالحضارات الأخرى حربا وثقافة وتجارة، إلا أنّ التّأريخ بخل أن يكتب عنهم إلا بعض ما حفظ من النّقوش والآثار والكتابات القديمة!!
وعلى العموم ممكن أن نجمل أهم الآلات في العصور القديمة:
– العود: وهو من الآلات الوتريّة المألوفة منذ القدم عند الأمم الشّرقيّة، لا يماثله آلة أخرى في سهولة الاستعمال، وفخامة النّغم، ومطابقته للأصوات الإنسانيّة[16].
– الطّنبور: من الآلات القريبة من العود، ويستخرج منه النّغم بقسمة الأوتار الّتي تستعمل فيها[17]، والطّنبور فارسيّ معرّب[18].
– المزمار: من الآلات الّتي يحدث فيها النّغم بمصاحبة الهواء السّالك في المنافذ المعمولة فيها لمقعرات تلك المنافذ[19].
– السّرناي: صنف من المزامير، غير أنّها أحدّ تمديدا من سائر أصنافها، وقد جرت عادة مستعمليها أن يجعلوا على محدبها ثمانية معاطف[20].
– الرّباب: آلة وتريّة قديمة، وهي الّتي يسميها الأوربيون كمانجة عجوز، ذات صندوق نصف بيضاويّ، ويشدّ عليها وتران أكثر الأمر، وقد دخلت الرّباب أوربا عن طريق الأندلس، وتطورت صناعتها شيئا فشيئا، وسميت في القرن السّابع عشر بآلة الكمان[21].
– الصّنج: صنف من أصناف المعازف، غير أنّه قد يسمى به آلة الإيقاع القديمة الّتي يستعملها الكهنة، وهو قطعتان من النّحاس مستديرتان، يُضرب بإحداهما فوق الأخرى[22].
– الكوبة: طبل طويل، متسع الطّرفين، ضيّق الوسط[23].
– الطّبل: شكل أسطواني متسع الأطراف والوسط.
– الدّف: شكل دائريّ مفتوح أحد الجانبين.
– الكمنجا: هي الرّباب ذات القوس بالفارسيّة[24].
– الكنارة: آلة وترية مصنوعة من الخشب، مثبتة أوتارها في إطار خشبيّ غير منتظم الأضلاع، أحد ضلعي الجانبين أقصر من الآخر، ويجري ضبط أوتارها بانزلاق الحلقات المثبتة على الضّلع ألمامي للإطار، وهي المعروفة بالسّمسمة[25].
هذه من أهم الآلات وأشهرها في العصور القديمة، وهناك آلات أخرك نترك بيانها اختصارا، لننتقل إلى الغناء والمعازف في العصر الجاهليّ.
يتبع الحلقة الثّالثة….
الهوامش:
[1] يطلق العرب على الحضارة اليونانيّة القديمة باسم حضارة الإغريق، وهي الّتي قامت في روما وقبرص نشأة، وسمو بالإغريق نسبة إلى الجانب العرقيّ، إلا أنّه يطلق عليهم أيضا بالهيلينين.
[2] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 15 – 17. [من مقدّمة المحقق].
[3] سمّى القرآنُ النّصارى بهذا الاسم مع أنّ أغلب النّصارى يطلقون على أنفسهم المسيحيين، أي نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، واختلف في سبب نسبتهم إلى النّصارى، فقيل نسبة إلى منطقة النّاصرة في فلسطين، وقيل نسبة إلى الحواريين الّذين نصروا المسيح عيسى، وقيل غير ذلك، والقول الثّاني أرجح فيما يبدو لي – والله أعلم -، وذلك لظاهر قول الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران/ 52.
[4] الموسيقى الأوربيّة من اليونان حتى القرن التّاسع عشر، مصدر سابق، ج: 2، ص: 15.
[5] المصدر نفسه، ج: 2، ص: 15.
[6] المصدر نفسه، ج: 2، ص: 15.
[7] خليل عزّ الدّين أيبك الصّفديّ، نسبة إلى صفد في فلسطين، برع في النّظم والرّسم والنّثر والموسيقى، وغيرها من الفنون، من كتبه رسالة في علم الموسيقى، توفية سنة: 764هـ..
ينظر: مقدّمة عبد المجيد دياب لكتاب رسالة في علم الموسيقى، مصدر سابق، ص 53 – 54.
[8] ويسمى أيضا: الإسكندر الأكبر، والإسكندر الكبير، والإسكندر المقدونيّ، والإسكندر ذو القرنين، من أعظم القادة العسكريين في التّأريخ، توفي سنة: 323هـ..
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأربعاء 20/9/2017م، السّاعة السّادسة صباحا.
[9] ويسمى أيضا: أَرِسْطُو وأرسطاطاليس، فيلسوف يونانيّ، تلميذ أفلاطون، ومعلّم الإسكندر الأكبر، توفيّ سنة: 322 ق م.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأربعاء 20/9/2017م، السّاعة السّادسة صباحا.
[10] رسالة في علم الموسيقى، مصدر سابق، ص: 15 – 16.
[11] دندنة على سنّ القلم، مرجع سابق، ص 91 – 92.
[12] أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابيّ، ولد في فاراب في اقليم تركستان، [كازخستان حاليا]، فيلسوف عربيّ، اشتهر بإتقان العلوم الحكمية، وكانت له قوة في صناعة الطّب، سمي “المعلم الثّاني” نسبة إلى المعلم الأول أرسطو، والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق؛ لأنّ الفارابيّ شارح مؤلفات أرسطو المنطقيّة، توفي سنة: 339هـ.
ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تاريخ الزّيارة: الأربعاء 20/9/2017م، السّاعة السّابعة والثّلث صباحا.
[13] ابن سينا الملقب بالشّيخ الرّئيس، عالم في الطّب والفلسفة والموسيقى وغيرها من الفنون، من كتبه: رسالة في الموسيقى، توفي سنة: 428 هـ.
ينظر: مقدّمة عبد المجيد دياب لكتاب رسالة في علم الموسيقى، مصدر سابق، ص 26.
[14] المرجع نفسه، ص 92.
[15] أغلب هذه الحضارات على الصّحيح حضارات عربيّة قديمة.
[16] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 498. [من الهامش].
[17] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 629.
[18] الرّازيّ: محمد بن أبي بكر عبد القادر؛ مختار الصّحاح، دار الكتب العلميّة، بيروت/ لبنان، الطّبعة الأولى، 1414هـ/ 1994م، ص: 360. [مادّة طنب].
[19] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 772.
[20] المصدر نفسه، ص 787 – 788.
[21] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 800. [من الهامش].
[22] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 823.
[23] حسن: ياسين محمد؛ الإسلام وقضايا الفنّ المعاصر، ط دار الألباب، دمشق – بيروت، الطّبعة الأولى، 1410هـ/ 1990م، ص: 219.
[24] رسالة في علم الموسيقى، مصدر سابق، ص: 108.
[25] الخفيّ: محمد أحمد؛ الموسيقى المصريّة حتى الفتح العربيّ، بحث منشور ضمن كتاب محيط الفنون، ط دار المعارف/ مصر، ج: 2، ص: 54.